بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥١
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

بالزئبق أو إراءتهم أشياء بسرعة اليد لا حقيقة لها.

وأما حدوث الحب والبغض والهم وأمثالها فالظاهر أن الله تعالى جعل لها تأثيرا وحرمها كما أومأنا إليه وهذا مما لا ينكره العقل ويحتمل أن يكون للشياطين أيضا مدخلا (١) في ذلك ويقل أو يبطل تأثيرها بالتوكل والدعاء والآيات والتعويذات.

ولذا كان شيوع السحر والكهانة وأمثالهما في الفترات بين الرسل وخفاء آثار النبوة واستيلاء الشياطين أكثر وتضعف وتخفى تلك الأمور عند نشر آثار الأنبياء وسطوع أنوارهم كأمثال تلك الأزمنة فإنه ليس من دار ولا بيت إلا وفيه مصاحف كثيرة وكتب جمة من الأدعية والأحاديث وليس من أحد إلا ومعه مصحف أو عوذة أو سورة شريفة وقلوبهم وصدورهم مشحونة بذلك فلذا لا نرى منها أثرا بينا في تلك البلاد إلا نادرا في البلهاء والضعفاء والمنهمكين في المعاصي وقد نسمع ظهور بعض آثارها في أقاصي البلاد لظهور آثار الكفر وندور أنوار الإيمان فيها كأقاصي بلاد الهند والصين والترك.

وأما تأثير السحر في النبي والإمام صلوات الله عليهما فالظاهر عدم وقوعه وإن لم يقم برهان على امتناعه إذا لم ينته إلى حد يخل بغرض البعثة كالتخبيط والتخليط فإنه إذا كان الله سبحانه أقدر الكفار لمصالح التكليف على حبس الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام وضربهم وجرحهم وقتلهم بأشنع الوجوه فأي استحالة على أن يقدروا على فعل يؤثر فيهم هما ومرضا.

لكن لما عرفت أن السحر يندفع بالعوذ والآيات والتوكل وهم عليهم‌السلام معادن جميع ذلك فتأثيره فيهم مستبعد والأخبار الواردة في ذلك أكثرها عامية أو ضعيفة ومعارضة بمثلها فيشكل التعويل عليها في إثبات مثل ذلك.

وأما ما يذكر من بلاد الترك أنهم يعملون ما يحدث به السحب والأمطار فتأثير أعمال مثل هؤلاء الكفرة في الآثار العلوية وما به نظام العالم مما يأبى عنه العقول

__________________

(١) كذا.

٤١

السليمة والأفهام القويمة ولم يثبت عندنا بخبر من يوثق بقوله.

وأما العين فالظاهر من الآيات والأخبار أن لها تحققا أيضا إما بأن جعل الله تعالى لذلك تأثيرا وجعل علاجه التوكل والتوسل بالآيات والأدعية الواردة في ذلك أو بأن الله تعالى يفعل في المعين فعلا عند حدوث ذلك لضرب من المصلحة وقد أومأنا إلى وجه آخر فيما مر.

وبالجملة لا يمكن إنكار ذلك رأسا لما يشاهد من ذلك عينا وورود الأخبار به مستفيضا والله يعلم وحججه عليه‌السلام حقائق الأمور.

٢

(باب)

*(حقيقة الجن وأحوالهم)* (١)

الآيات الأنعام « وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ » (٢).

وقال تعالى : « وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ

__________________

(١) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله. يقول افقر العباد الى رحمة ربه البارى عبد الرحيم الربانى الشيرازى عفى عنه وعن والديه : هذه تعليقة وجيزة عملت فيها إيضاح بعض غرائب اللغة ومشكلاتها مما لم يذكره المصنف قدس‌سره وخرجت الأحاديث من مصادرها وقابلت نصوصها عليها ، وذكرت ما اختلف فيها وربما شرحت بعض الأحاديث واسانيدها مستعينا من الله الموفق الصواب والسداد وراجيا منه العفو يوم الحساب انه ولى التوفيق وعليه التكلان.

(٢) الأنعام : ١٠٠.

٤٢

آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ » (١).

الأعراف : « فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ » (٢) الحجر « وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ » (٣).

الشعراء : « هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ » (٤).

النمل : « وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ » (٥).

وقال تعالى : « قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ » (٦).

التنزيل : « لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ » (٧).

سبأ : « وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ » (٨).

وقال سبحانه : « بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ » (٩).

__________________

(١) الأنعام : ١٢٨ ـ ١٣٠.

(٢) الأعراف : ١١٦.

(٣) الحجر : ٢٧.

(٤) الشعراء : ١٢١ ـ ١٢٣.

(٥) النمل : ١٦.

(٦) النمل : ٣٩.

(٧) السجدة : ١٣.

(٨) سبأ : ١٢ ـ ١٤.

(٩) سبأ : ٤١.

٤٣

الأحقاف « أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ » (١).

وقال سبحانه : « وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ » (٢).

الرحمن « وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ » (٣).

وقال عز وجل : « يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ » (٤).

وقال سبحانه : « وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ » (٥).

وقال تعالى : « لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ » (٦) في موضعين.

الجن : « قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً » (٧) إلى آخر السورة.

تفسير « وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ » قال الرازي في تفسيره إن الذين أثبتوا الشريك لله فرق وطوائف.

فالأولى عبدة الأصنام فهم يقولون الأصنام شركاء لله في المعبودية ولكنهم

__________________

(١) الأحقاف : ١٨.

(٢) الأحقاف : ٢٩ ـ ٣٢.

(٣) الرحمن : ١٥.

(٤) الرحمن : ٣٣.

(٥) الرحمن : ٤٦.

(٦) الرحمن : ٥٦ و ٧٤.

(٧) الجن : ١ ـ ٢٨.

٤٤

يعترفون (١) بأن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخلق والإيجاد والتكوين.

والثانية الذين يقولون مدبر هذا العالم هو الكواكب وهؤلاء فريقان منهم من يقول إنها واجبة الوجود لذواتها (٢) ومنهم من يقول إنها ممكنة الوجود محدثة (٣) وخالقها هو الله تعالى إلا أنه سبحانه فوض تدبير هذا العالم الأسفل إليها وهم الذين ناظرهم الخليل (٤).

والثالثة من المشركين الذين قالوا لجملة هذا العالم بما فيه من السماوات والأرض إلهان أحدهما فاعل الخير وثانيهما فاعل الشر والمقصود من هذه الآية حكاية مذهب هؤلاء فروي عن ابن عباس أنه قال قوله تعالى « وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ » نزلت في الزنادقة الذين قالوا إن الله وإبليس أخوان فالله تعالى خالق النار والدواب والأنعام والخيرات وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشرور.

واعلم أن هذا القول الذي ذكره ابن عباس أحسن الوجوه المذكورة في هذه الآية لأن بهذا الوجه يحصل لهذه الآية مزيد فائدة مغايرة لما سبق ذكره في الآيات المتقدمة قال ابن عباس والذي يقوي هذا الوجه قوله تعالى « وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً » (٥) وإنما وصف بكونه من الجن لأن لفظ الجن مشتق من الاستتار والملائكة والروحانيون لا يرون بالعيون فصارت كأنها مستترة من العيون فبهذا (٦) أطلق لفظ الجن عليها.

__________________

(١) في المصدر : معترفون.

(٢) في المصدر : لذاتها.

(٣) في المصدر : ممكنة الوجود لذواتها محدثة.

(٤) في المصدر : وهؤلاء هم الذين حكى الله عنهم أن الخليل صلى الله عليه وسلم ناظرهم بقوله : لا أحب الآفلين.

(٥) الصافات : ١٥٨. قد سقطت هذه الآية عن قلمه الشريف ، وكان يلزم أن يذكرها تلو الآيات.

(٦) في المصدر : فبهذا التأويل.

٤٥

وأقول : هذا مذهب المجوس وإنما قال ابن عباس هذا قول الزنادقة لأن المجوس يلقبون بالزنادقة لأن الكتاب الذي زعم زردشت (١) أنه نزل عليه من عند الله مسمى بالزند والمنسوب إليه يسمى بالزندي (٢) ثم عرب فقيل زنديق ثم جمع فقيل زنادقة.

واعلم أن المجوس قالوا كل ما في هذا العالم من الخيرات فهو من يزدان وكل ما فيه من الشرور من أهرمن وهو المسمى بإبليس في شرعنا ثم اختلفوا فالأكثرون منهم على أن أهرمن محدث ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة والأقلون منهم قالوا إنه قديم أزلي وعلى القولين فقد اتفقوا على أنه شريك لله في تدبير العالم فخيرات هذا العالم من الله وشروره من إبليس.

فإن قيل : فعلى هذا التقدير القوم أثبتوا لله شريكا واحدا وهو إبليس فكيف حكى الله عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء والجواب أنهم يقولون عسكر الله هم الملائكة وعسكر إبليس هم الشياطين والملائكة فيهم كثرة عظيمة وهم أرواح طاهرة مقدسة وهي (٣) تلهم الأرواح البشرية بالخيرات والطاعات والشياطين أيضا فيهم كثرة عظيمة وهي تلقي الوسواس الخبيثة إلى الأرواح البشرية والله مع عسكره من الملائكة يحاربون إبليس مع عسكره من الشياطين فلهذا السبب حكى الله عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء من الجن.

فإذا عرفت هذا فقوله « وَخَلَقَهُمْ » إشارة إلى الدليل القاطع الدال على فساد كون إبليس شريكا لله في ملكه وتقريره من وجهين.

الأول أنا نقلنا عن المجوس أن الأكثرين منهم معترفون بأن إبليس ليس بقديم بل هو محدث وكل محدث فله خالق وما ذاك إلا الله سبحانه فيلزمهم القطع

__________________

(١) في المصدر : زرادشت.

(٢) في المصدر : بالزندى.

(٣) في المصدر : وهم يلهمون تلك الأرواح.

٤٦

بأن خالق إبليس هو الله تعالى ولما كان إبليس أصلا لجميع الشرور والقبائح (١) فيلزمهم أن إله العالم هو الخالق لما هو أصل الشرور والمفاسد وإذا كان كذلك امتنع عليهم أن يقولوا لا بد من إلهين يكون أحدهما فاعل الخيرات والثاني فاعلا للشرور وبهذا الطريق ثبت أن إله الخير هو بعينه الخالق لهذا الذي هو الشر الأعظم.

والثاني ما بينا في كتبنا (٢) أن ما سوى الواحد ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فهو محدث ينتج أن ما سوى الواحد الأحد الحق فهو محدث فيلزم القطع بأن إبليس وجميع جنوده موصوفون بالحدوث وحصول الوجود بعد العدم فيعود الإلزام المذكور على ما قررنا.

وقيل المراد بالآية أن الكفار كانوا يقولون الملائكة بنات الله وأطلق الجن عليهم لكونهم مستترين عن الأعين وقال الحسن وطائفة إن المراد أن الجن دعوا الكفار إلى عبادة الأصنام وإلى القول بالشرك فقبلوا من الجن هذا القول وأطاعوهم فصاروا من هذا الوجه قائلين بكون الجن شركاء لله والحق هو القول الأول (٣).

« وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ » قال الفراء معنى خرقوا افتعلوا وافتروا فأما الذين أثبتوا البنين فهم النصارى وقوم من اليهود وأما الذين أثبتوا البنات فهم العرب قالوا الملائكة بنات الله وقوله « بِغَيْرِ عِلْمٍ » كالتنبيه على ما هو الدليل القاطع على فساد هذا القول لأن الولد (٤) يشعر بكونه متولدا عن جزء من أجزاء الوالد

__________________

(١) في المصدر : لجميع الشرور والآفات والمفاسد والقبائح. والمجوس سلموا ان خالقه هو الله تعالى فحينئذ قد سلموا ان اله العالم هو الخالق لما هو أصل الشرور والقبائح والمفاسد.

(٢) في المصدر : فى هذا الكتاب وفي كتاب الأربعين في أصول الدين.

(٣) التفسير الكبير ١٣ : ١١٢ ـ ١١٥ ، اختصره رحمه‌الله في بعض المواضع.

(٤) ذكر الرازي في فساد هذا القول وجوه ، والذي ذكره المصنف هو الوجه الثالث اما الاولان فقال الرازي : الحجة الأولى : ان الإله يجب أن يكون واجب الوجود لذاته فولده اما أن يكون واجب الوجود لذاته او لا يكون ، فان كان واجب الوجود لذاته

٤٧

وذلك إنما يعقل في حق من يكون مركبا ويمكن انفصال بعض أجزائه عنه وذلك في حق الأحد (١) الفرد محال.

فحاصل الكلام أن من علم أن الإله ما حقيقته استحال أن يقول له ولد فقوله « بِغَيْرِ عِلْمٍ » إشارة إلى هذه الدقيقة و « سُبْحانَهُ » تنزيه لله عن كل ما لا يليق به « وَتَعالى » أي هو متعال عن كل اعتقاد باطل (٢) وقول فاسد (٣).

قوله سبحانه « وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً » أي جميع الخلق أو الإنس والجن « يا مَعْشَرَ الْجِنِ » أي يا جماعة الجن « قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ » أي من إغوائهم وإضلالهم أو منهم بأن جعلتموهم أتباعكم فحشروا معكم « وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ » الذين أطاعوهم « رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ » أي انتفع الإنس بالجن بأن دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إليها والجن بالإنس بأن أطاعوهم وحصلوا مرادهم وقيل استمتاع الإنس بهم أنهم كانوا يعوذون بهم في المفاوز عند المخاوف واستمتاعهم بالإنس اعتراف بأنهم يقدرون على إجارتهم.

« وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ » أي البعث « وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً »

__________________

كان مستقلا بنفسه قائما بذاته لا تعلق له في وجوده بالآخر ، ومن كان كذلك لم يكن والد له البتة لان الولد مشعر بالفرعية والحاجة ، واما ان كان ذلك الولد ممكن الوجود لذاته فحينئذ يكون وجوده بايجاد واجب الوجود لذاته ، ومن كان كذلك فيكون عبد الله لا والدا له فثبت ان من عرف ان الإله ما هو امتنع منه ان يثبت له البنات والبنين.

الحجة الثانية ان الولد يحتاج إليه ان يقوم مقامه بعد فنائه ، وهذا يعقل في حق من يفنى ، اما من تقدس عن ذلك لم يعقل الولد في حقه.

(١) في المصدر : فى حق الواحد الفرد الواجب لذاته محال.

(٢) فيه اختصار والموجود في المصدر : واما قوله : ( وتعالى ) فلا شك انه لا يفيد العلو في المكان ، لان المقصود هاهنا تنزيه الله تعالى عن هذه الأقوال الفاسدة والعلو في المكان لا يفيد هذا المعنى فثبت ان المراد هاهنا التعالى عن كل اعتقاد باطل وقول فاسد.

(٣) التفسير الكبير ١٣ : ١١٦ و ١١٧.

٤٨

أي نكل بعضهم إلى بعض أو يجعل (١) بعضهم يتولى بعضا فيغويهم أو أولياء بعض وقرناؤهم في العذاب كما كانوا في الدنيا.

« أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ » قال الطبرسي رحمه‌الله قوله « مِنْكُمْ » وإن كان خطابا لجميعهم والرسل من الإنس خاصة فإنه يحتمل أن يكون لتغليب أحدهما على الآخر كما قال سبحانه « يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ » (٢) وإن كان اللؤلؤ يخرج من الملح دون العذاب وكما يقال أكلت الخبز واللبن وإنما يأكل الخبز ويشرب اللبن وهو قول أكثر المفسرين وقيل إنه أرسل رسلا إلى الجن كما أرسل إلى الإنس عن الضحاك وعن الكلبي كان الرسل يرسلون إلى الإنس ثم بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الإنس والجن وقال ابن عباس إنما بعث الرسول من الإنس ثم كان يرسل هو إلى الجن رسولا من الجن وقال مجاهد الرسل من الإنس والنذر من الجن (٣).

وأقول قد مر تفسير الآيات في كتاب المعاد.

وقال الرازي في قوله تعالى « سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ » احتج بهذه الآية القائلون بأن السحر محض التمويه.

قال القاضي لو كان السحر حقا لكانوا قد سحروا قلوبهم لا أعينهم فثبت أن المراد أنهم تخيلوا أحوالا عجيبة مع أن الأمر في الحقيقة ما كان على ما وفق ما تخيلوه (٤).

« وَالْجَانَ » قال البيضاوي أي الجن.

وقيل إبليس ويجوز أن يراد به كون الجنس بأسره مخلوقا منها وانتصابه بفعل يفسره « خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ » أي من قبل خلق الإنسان « مِنْ نارِ السَّمُومِ » أي من

__________________

(١) في المخطوطة : أو نجعل.

(٢) الرحمن : ٢٢.

(٣) مجمع البيان ٤ : ٣٦٧. أقول : هذه كلها اقوال من غير دليل.

(٤) التفسير الكبير ١٤ : ٢٠٣.

٤٩

نار الحر الشديد النافذ في المسام ولا يمتنع خلق الحياة في الأجرام البسيطة كما لا يمتنع خلقها في الجواهر المجردة فضلا عن الأجساد المؤلفة التي الغالب فيها الجزء الناري فإنها أقبل لها من التي الغالب فيها الجزء الأرضي وقوله « مِنْ نارِ » باعتبار الجزء الغالب كقوله « خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ » (١).

وقال الرازي اختلفوا في أن الجان من هو قال عطاء عن ابن عباس يريد إبليس وهو قول الحسن ومقاتل وقتادة.

وقال ابن عباس في رواية أخرى الجان هو أبو الجن وهو قول الأكثرين وسمي جانا لتواريه عن الأعين كما سمي الجن جنا لهذا السبب (٢) والجنين متوار في بطن أمه ومعنى الجان في اللغة الساتر من قولك جن الشيء إذا ستره فالجان المذكور هنا يحتمل أن يكون جانا لأنه يستر نفسه عن بني (٣) آدم أو يكون من باب الفاعل الذي يراد به المفعول كما تقول في لابن وتامر و « ماءٍ دافِقٍ » و « عِيشَةٍ راضِيَةٍ » واختلفوا في الجن فقال بعضهم إنه جنس غير الشياطين والأصح أن الشياطين قسم من الجن فكل من كان منهم مؤمنا فإنه لا يسمى بالشيطان وكل من كان منهم كافرا يسمى بهذا الاسم.

والدليل على صحة ذلك أن لفظ الجن مشتق من الاجتنان بمعنى الاستتار فكل من كان كذلك كان من الجن.

والسموم في اللغة الريح الحارة تكون بالنهار وقد تكون بالليل وعلى هذا فالريح الحارة فيها نار ولها لهب على ما ورد في الخبر أنها من فيح جهنم (٤) قيل سميت سموما لأنها بلطفها تدخل مسام البدن وهي الخروق الخفية التي تكون

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ : ٦٤٧ فيه : ابا الجن.

(٢) في المصدر : كما سمى الجنين جنينا لهذا السبب.

(٣) في المصدر : عن اعين بني آدم.

(٤) في المصدر : فالريح الحارة فيها نار ولها لفح وأوار على ما ورد في الخبر انها لفح جهنم.

٥٠

في جلد الإنسان يبرز منها عرقه وبخار باطنه.

قال ابن مسعود هذا السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي منها الجان (١) وتلا هذه الآية.

فإن قيل كيف يعقل حصول الحيوان (٢) من النار قلنا هذا على مذهبنا ظاهر لأن البنية عندنا ليست شرطا لإمكان حصول الحياة فإنه تعالى قادر على خلق الحياة والعقل والعلم في الجوهر الفرد وكذلك يكون قادرا على خلق الحياة والعقل في الجسم الحار (٣).

« هَلْ أُنَبِّئُكُمْ » قال البيضاوي لما بين أن القرآن لا يصح أن يكون مما تنزلت به الشياطين أكد ذلك بأن بين أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يصح أن يتنزلوا عليه من وجهين أحدهما أنه إنما يكون (٤) على شرير كذاب كثير الإثم فإن اتصال الإنسان بالغائبات لما بينهما من التناسب والتواد وحال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله على خلاف ذلك وثانيهما قوله « يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ » أي الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون منهم ظنونا وأمارات لنقصان علمهم فينضمون إليها على حسب تخيلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها كما جاء في الحديث الكلمة يختطفها الجني فيقرؤها (٥) في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة ولا كذلك محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنه أخبر عن مغيبات كثيرة لا تحصى وقد طابق كلها.

وقد فسر الأكثر بالكل كقوله « كُلِّ أَفَّاكٍ » والأظهر أن الأكثرية باعتبار أقوالهم على معنى أن هؤلاء قل من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني وقيل الضمائر للشياطين أي يلقون السمع إلى الملإ الأعلى قبل أن رجموا فيختطفون منهم بعض المغيبات.

__________________

(١) في المصدر : خلق الله بها الجان.

(٢) في المصدر : خلق الجان.

(٣) التفسير الكبير ١٩ : ١٨٠ و ١٨١.

(٤) في المصدر : لا يصلح لان تنزلوا عليه من وجهين احدهما انه يكون.

(٥) في المصدر : فيقرها.

٥١

يوحون (١) إلى أوليائهم أي يلقون مسموعهم منهم إلى أوليائهم « وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ » فيما يوحون به إليهم إذ يسمعونهم لا على نحو ما تكلمت به الملائكة لشرارتهم أو لقصور فهمهم أو ضبطهم أو أفهامهم (٢).

« قالَ عِفْرِيتٌ » قال البيضاوي خبيث مارد « مِنَ الْجِنِ » بيان له لأنه يقال للرجل الخبيث المنكر المعفر أقرانه وكان اسمه ذكوان أو صخر (٣) « قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ » مجلسك للحكومة وكان يجلس إلى نصف النهار « وَإِنِّي عَلَيْهِ » على حمله « لَقَوِيٌّ أَمِينٌ » لا أختزل منه شيئا ولا أبدله انتهى (٤).

قوله تعالى « مِنَ الْجِنَّةِ » يدل على أن الجن مكلفون ومعذبون بالنار مع سائر الكفار.

« وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ » قال الطبرسي رحمه‌الله المعنى وسخرنا له من الجن من يعمل (٥) بحضرته وأمام عينه ما يأمرهم به من الأعمال كما يعمل الآدمي بين يدي الآدمي بأمر ربه تعالى وكان يكلفهم الأعمال الشاقة مثل عمل الطين وغيره.

وقال ابن عباس سخرهم الله لسليمان وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به وفي هذا دلالة على أنه قد كان من الجن من هو غير مسخر له.

« وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ » أي ومن يعدل من هؤلاء الجن الذين سخرناهم لسليمان عما أمرناهم به من طاعة سليمان « نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ » أي عذاب النار في الآخرة عن أكثر المفسرين.

وفي هذا دلالة على أنهم قد كانوا مكلفين.

__________________

(١) في المصدر : يوحون به.

(٢) أنوار التنزيل ٢ : ١٩٠.

(٣) في المصدر : او صخرا.

(٤) أنوار التنزيل : ٢ : ١٩٩.

(٥) في المصدر : من يعمل له.

٥٢

وقيل معناه نذيقه العذاب في الدنيا وأن الله سبحانه وكل بهم ملكا بيده سوط من نار فمن زاغ منهم عن طاعة سليمان ضربه ضربة أحرقته.

« يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ » وهي بيوت الشريعة.

وقيل هي القصور والمساجد يتعبد فيها وكان مما عملوه بيت المقدس « وَتَماثِيلَ » يعني صورا من نحاس وشبه وزجاج ورخام كانت الجن تعملها.

وقال بعضهم (١) كانت صورا للحيوانات.

وقال آخرون كانوا يعملون صور السباع والبهائم على كرسيه ليكون أهيب له.

قال الحسن ولم يكن يومئذ التصاوير محرمة وهي محظورة في شريعة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقال ابن عباس كانوا يعملون صور الأنبياء والعباد في المساجد ليقتدي بهم ، وروي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ولكنها الشجر وما أشبهه.

« وَجِفانٍ كَالْجَوابِ » أي صحاف كالحياض يجبى فيها الماء أي يجمع.

وقيل إنه كان يجتمع على كل جفنة ألف رجل يأكلون بين يديه « وَقُدُورٍ راسِياتٍ » أي ثابتات لا تزلن عن أمكنتهن لعظمتهن « فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ » أي فلما حكمنا على سليمان بالموت.

وقيل معناه أوجبنا على سليمان (٢) « ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ » أي ما دل الجن على موته إلا الأرضة ولم يعلموا موته حتى أكلت عصاه فسقط فعلموا أنه ميت.

وروى أبو بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إن سليمان أمر الشياطين فعملوا له قبة من قوارير فبينما هو قائم متكئ على عصاه في القبة ينظر إلى الجن كيف يعملون

__________________

(١) في المصدر : ثم اختلفوا فقال بعضهم.

(٢) في المصدر : على سليمان الموت.

٥٣

وهم ينظرون إليه لا يصلون إليه إذا رجل معه في القبة فقال من أنت قال أنا الذي لا أقبل الرشى ولا أهاب الملوك فقبضه وهو قائم متكئ على عصاه في القبة قال فمكثوا سنة يعملون له حتى بعث الله الأرضة فأكلت منسأته.

وفي حديث آخر عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : فكان آصف يدبر أمره حتى دبت الأرضة « فَلَمَّا خَرَّ » أي سقط سليمان ميتا « تَبَيَّنَتِ الْجِنُ » أي ظهرت الجن فانكشفت (١) للناس « أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ » معناه في الأعمال الشاقة.

وقيل إن المعنى تبينت عامة الجن وضعفاؤهم أن رؤساءهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا يوهمونهم أنهم يعلمون الغيب.

وقيل معناه تبينت الإنس أن الجن كانوا لا يعلمون الغيب فإنهم كانوا يوهمون الإنس أنا نعلم الغيب وإنما قال « تَبَيَّنَتِ الْجِنُ » كما يقول من يناظر غيره ويلزمه الحجة هل تبين لك أنك باطل (٢).

ويؤيده قراءة علي بن الحسين وأبي عبد الله عليه‌السلام وابن عباس والضحاك تبينت الإنس (٣).

وأما الوجه في عمل الجن تلك الأعمال العظيمة فهو أن الله تعالى زاد في أجسامهم وقوتهم وغير خلقهم عن خلق الجن الذين لا يرون للطافتهم ورقة أجسامهم على سبيل الإعجاز الدال على نبوة سليمان فكانوا بمنزلة الأسراء في يده وكانوا يتهيأ لهم الأعمال التي كان يكلفها إياهم ثم لما مات عليه‌السلام جعل الله خلقهم على ما كانوا عليه فلا يتهيأ لهم في هذا الزمان من ذلك شيء (٤).

وقال في قوله تعالى « بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ » بطاعتهم إياهم فيما دعوهم إليه من عبادة الملائكة.

__________________

(١) في المصدر : فانكشف.

(٢) في المصدر : على باطل.

(٣) ذكر الطبرسي هذه القراءة في بحث القراءة.

(٤) مجمع البيان ٨ : ٣٨٠ و ٣٨٢ ـ ٣٨٤.

٥٤

وقيل المراد بالجن إبليس وذريته وأعوانه « أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ » مصدقون بالشياطين مطيعون لهم (١).

وقال في قوله تعالى « وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ » (٢) أي كلمة العذاب « فِي أُمَمٍ » أي مع أمم « قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ » على مثل حالهم واعتقادهم.

قال قتادة قال الحسن الجن لا يموتون فقلت « أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ » الآية تدل على خلافه (٣).

قوله تعالى « وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ » قال الرازي في كيفية هذه الواقعة قولان الأول قال سعيد بن جبير كانت الجن تستمع فلما رجموا قالوا هذا الذي حدث في السماء إنما حدث لشيء حدث في الأرض فذهبوا يطلبون السبب.

وكان قد اتفق أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما آيس من أهل مكة أن يجيبوه خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام فلما انصرف إلى مكة وكان ببطن نخلة (٤) أقام به يقرأ القرآن فمر به نفر من أشراف جن نصيبين كان إبليس بعثهم ليعرف (٥) السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم فتسمعوا (٦) القرآن وعرفوا أن ذلك السبب.

الثاني أن الله أمر رسوله أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن فصرف الله تعالى إليه نفرا من الجن ليسمعوا (٧) القرآن وينذروا قومهم.

__________________

(١) مجمع البيان ٨ : ٣٩٥.

(٢) هكذا في النسخ المطبوعة ، والمخطوطة خالية عنه ، والصحيح : [ حق عليهم ] كما في المصحف الشريف.

(٣) مجمع البيان ٩ : ٨٧.

(٤) في المصدر : قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر.

(٥) في المصدر : ليعرفوا.

(٦) في النسخة المطبوعة بتبريز : [ فتستمعوا ] وفي المصدر : فسمعوا القرآن وعرفوا ان ذلك هو السبب.

(٧) في المصدر : ليستمعوا منه.

٥٥

ويتفرع على ما ذكرناه فروع :

الأول نقل (١) القاضي في تفسيره عن الجن أنهم كانوا يهودا لأن في الجن مللا كما في الإنس من اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان (٢) وأطبق المحققون على أن الجن مكلفون سئل ابن عباس هل للجن ثواب قال نعم لهم ثواب وعليهم عذاب (٣) يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها.

الثاني : قال صاحب الكشاف النفر دون العشرة ويجمع أنفارا ثم روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس أن أولئك الجن كانوا سبعة أنفار من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رسلا إلى قومهم.

وعن زر بن حبيش كانوا تسعة أحدهم زوبعة (٤).

الثالث : اختلفوا في أنه هل كان عبد الله بن مسعود مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة الجن أم لا والروايات فيه مختلفة.

الرابع : روى القاضي في تفسيره عن أنس قال : كنت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في جبال مكة إذ أقبل شيخ متوكئ على عكازة فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله مشية جني ونغمته فقال أجل فقال من أي الجن أنت فقال أنا هامة بن هيم بن لاقيس بن إبليس فقال لا أرى بينك وبين إبليس إلا أبوين فكم أتى عليك؟

قال : أكلت عمر الدنيا إلا أقلها وكنت وقت قابيل وهابيل (٥) أمشي بين الآكام وذكر كثيرا مما مر به وذكر في جملته أن قال قال لي عيسى إن لقيت محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) في المصدر : نقل عن القاضي في تفسيره الجن.

(٢) في المصدر : وعبدة الأصنام.

(٣) في المصدر : وعليهم عقاب.

(٤) في المخطوطة : [ ذويقة ] وفي المصدر : [ ذويعة ] ولعل الصحيح ما في المتن وهو يناسب معناه اللغوى وهو هيجان الارياح وتصاعدها الى السماء يقال له بالفارسية : گردباد.

(٥) في المصدر : وقت قتل قابيل.

٥٦

فأقرئه عني السلام وقد بلغت سلامه وآمنت بك (١) فقال إن موسى عليه‌السلام علمني التوراة وعيسى عليه‌السلام علمني الإنجيل فعلمني القرآن فعلمه عشر سور وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم تتمه (٢).

واختلفوا في تفسير قوله « وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ » فقال بعضهم لما لم يقصد الرسول قراءة القرآن عليهم فهو تعالى ألقى في قلوبهم ميلا إلى القرآن وداعية إلى استماعه فلهذا السبب قال « وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ ».

« فَلَمَّا حَضَرُوهُ » الضمير للقرآن أو للرسول « قالُوا » أي قال بعضهم لبعض « أَنْصِتُوا » أي اسكتوا مستمعين فلما فرغ من القراءة « وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ » ينذرونهم وذلك لا يكون إلا بعد إيمانهم لأنهم لا يدعون غيرهم إلى استماع القرآن والتصديق به إلا وقد آمنوا بوعيده (٣) « قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً » إلخ وصفه (٤) بوصفين.

الأول : كونه مصدقا لكتب الأنبياء عليه‌السلام فهو يماثل سائر الكتب الإلهية في الدعوة إلى المطالب العالية الشريفة.

والثاني : أن هذه المطالب حقة في أنفسها (٥) يعلم كل أحد بصريح عقله

__________________

(١) زاد في المصدر بعد ذلك : فقال عليه‌السلام : وعلى عيسى السلام وعليك يا هامة ، ما حاجتك.

(٢) في المخطوطة : [ ولم يتمه ] وفي المصدر : ولم ينعه قال عمر بن الخطاب : ولا اراه الا حيا.

(٣) في المصدر : [ فعنده ] مكان بوعيده.

(٤) في المصدر : ووصفوه.

(٥) الموجود في المصدر هكذا : الأول : كونه مصدقا لما بين يديه ، اى مصدقا لكتب الأنبياء ، والمعنى ان كتب سائر الأنبياء كانت مشتملة على الدعوة الى التوحيد والنبوة والمعاد والامر بتطهير الأخلاق فكذلك هذا الكتاب مشتمل على هذه المعاني. الثاني قوله : [ يهدى الى الحق والى طريق مستقيم ] واعلم ان الوصف الأول يفيد ان هذا الكتاب يماثل.

٥٧

كونها كذلك وإنما قالوا « مِنْ بَعْدِ مُوسى » لأنهم كانوا على اليهودية.

وعن ابن عباس أن الجن ما سمعت أمر عيسى فلذا قالوا « مِنْ بَعْدِ مُوسى».

«أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ » أي الرسول أو الواسطة الذي يبلغ عنه.

ويدل على أنه كان مبعوثا إلى الجن كما كان مبعوثا إلى الإنس قال مقاتل ولم يبعث الله نبيا إلى الإنس والجن قبله (١).

واختلفوا في أن الجن هل لهم ثواب أم لا قيل لا ثواب لهم إلا النجاة من النار ثم يقال لهم كونوا ترابا مثل البهائم واحتجوا بقوله تعالى « وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ » وهو قول أبي حنيفة والصحيح أنهم في حكم بني آدم فيستحقون الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية وهذا قول أبي ليلى (٢) ومالك وجرت بينه وبين أبي حنيفة في هذا الباب مناظرة قال الضحاك يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون.

والدليل على صحة هذا القول كل دليل دل على أن البشر يستحقون الثواب على الطاعة فهو بعينه قائم في حق الجن والفرق بين البابين بعيد جدا انتهى (٣).

وقال البيضاوي في قوله « يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ » وهو بعض ذنوبكم وهو ما يكون في خالص حق الله فإن المظالم لا يغفر بالإيمان « وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ » هو معد للكفار « فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ » إذ لا ينجي منه مهرب « وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ » يمنعونه منه « فِي ضَلالٍ مُبِينٍ » حيث اعترضوا عن إجابة من هذا شأنه (٤).

__________________

سائر الكتب الإلهية في الدعوة الى هذه المطالب العالية الشريفة ، والوصف الثاني يفيد ان هذه المطالب التي اشتمل القرآن عليها مطلب حقة صدق في انفسها.

(١) اختصر المصنف كلام الرازي.

(٢) الصحيح كما في المصدر : ابن أبي ليلى.

(٣) التفسير الكبير ٢٨ : ٣١ ـ ٣٣.

(٤) أنوار التنزيل ٢ : ٤٣٢.

٥٨

وقال الطبرسي رحمه‌الله قوله تعالى « وَخَلَقَ الْجَانَ » أي أبا الجن قال الحسن هو إبليس أبو الجن وهو مخلوق من لهب النار كما أن آدم مخلوق من طين « مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ » أي نار مختلط أحمر وأسود وأبيض عن مجاهد.

وقيل المارج الصافي من لهب النار الذي لا دخان فيه (١) « سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ » أي سنقصد لحسابكم أيها الجن والإنس والثقلان أصله من الثقل وكل شيء له وزن وقدر فهو ثقل وإنما سميا ثقلين لعظم خطرهما وجلالة شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من الحيوانات ولثقل وزنهما بالعقل والتمييز.

وقيل لثقلهما على الأرض أحياء وأمواتا ومنه قوله تعالى « وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها » أي أخرجت ما فيها من الموتى.

« أَنْ تَنْفُذُوا » أي تخرجوا هاربين من الموت « مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » أي جوانبهما ونواحيهما « فَانْفُذُوا » أي فاخرجوا فلن تستطيعوا أن تهربوا منه « لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ » أي حيث توجهتم فثم ملكي ولا تخرجون من سلطاني فأنا آخذكم بالموت (٢).

وقيل أي لا تخرجون إلا بقدرة من الله وقوة يعطيكموها بأن يخلق لكم مكانا آخر سوى السماوات والأرض ويجعل لكم قوة تخرجون بها إليه (٣).

« لَمْ يَطْمِثْهُنَ » أي لم يقتضهن والاقتضاض النكاح بالتدمية (٤) أي لم يطأهن ولم يغشهن « إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ » فهن أبكار لأنهن خلقن في الجنة.

فعلى هذا القول هؤلاء من حور الجنة.

وقيل هن من نساء الدنيا لم يمسسهن منذ أنشئن خلق قال الزجاج

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٢٠١.

(٢) ويحتمل أن يكون ذلك جملة مستأنفة.

(٣) مجمع البيان ٩ : ٢٠٤ و ٢٠٥.

(٤) في المصدر : لم يفتضهن ، والافتضاض : النكاح بالتدمية.

٥٩

وفيها دلالة على أن الجني يغشى كما يغشى الإنسي وقال ضمرة بن حبيب وفيها دليل على أن للجن ثوابا وأزواجا من الحور فالإنسيات للإنس والجنيات للجن.

وقال البلخي والمعنى أن ما يهب الله لمؤمني الإنس من الحور لم يطمثهن إنس وما يهب الله لمؤمني الجن من الحور لم يطمثهن جان انتهى (١).

وقال الرازي في قوله تعالى « فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما » الخطاب للإنس والجن أو الذكر والأنثى أو المراد التكرار للتأكيد.

أو المراد العموم لأن العام يدخل فيه قسمان كالحاضر وغير الحاضر والسواد وغير السواد والبياض وغيره وهكذا أو القلب واللسان فإن التكذيب قد يكون بالقلب وقد يكون باللسان أو التكذيب للدلائل السمعية والعقلية والظاهر منها الثقلان لقوله « سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ » وقوله « يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ » وقوله « خَلَقَ الْإِنْسانَ وَخَلَقَ الْجَانَ » (٢).

وقال في قوله تعالى « لَمْ يَطْمِثْهُنَ » إلى آخره ما الفائدة في ذكر الجان مع أن الجان لا يجامع.

نقول ليس كذلك بل الجن لهم أولاد وذرية وإنما الخلاف في أنهم هل يواقعون الإنس أم لا والمشهور أنهم يواقعون ولما كانت الجنة فيها الإنس والجن كانت مواقعة الإنس إياهن كمواقعة الجن فوجبت الإشارة إلى نفيهما انتهى (٣).

وقال البيضاوي في قوله تعالى « وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ » جنة للخائف

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٢٠٨ :

بيانه انه تعالى لما بين انهم لا يمكن لهم أن يهربوا من الموت بالامر التعجيزى بالانفاذ من اقطار السماوات والأرض استأنف الكلام ببيان أن النفوذ الى اقطار السماوات والأرض لا يمكن الا بسلطان العلم والقدرة.

(٢) التفسير الكبير ٢٩ : ٩٤ و ٩٥. واختصره المصنف.

(٣) التفسير الكبير ٢٩ : ١٣٠ فيه : والا لما كان في الجنة احساب ولا أنساب فكان مواقعة الانس اياهن كمواقعة الجن من حيث الإشارة الى نفيها.

٦٠