الثانى فإنما تفعل لا محالة بتوسط هذا الأول. فالنفس تحيى الحيوان بالقلب ، لكن يجوز أن تكون قوى الأفعال الأخرى تفيض من القلب إلى الأعضاء الأخرى ، لأن الفيض يجب أن يكون صادرا من أول متعلق به ، فيكون الدماغ هو الذى يتم فيه مزاج الروح الذى يصلح لأن يكون حاملا لقوى الحس والحركة إلى الأعضاء حملا يصلح معه أن تصدر عنها أفعالها. وكذلك حال الكبد بالقياس إلى قوى التغذية ، ولكن يكون القلب هو المبدأ الأول الذى أول تعلقه به ومنه ينفذ إلى غيره ويكون الفعل فى أعضاء أخرى. كما أن مبدأ الحس عند مخالفى هذا القول إنما هو فى الدماغ ، لكن أفعال الحس لا تكون به وفيه ، بل فى أعضاء أخرى كالجلد وكالعين وكالأذن.
وليس يجب من ذلك أن لا يكون الدماغ مبدأ ، لذلك أيضا لجواز أن يكون القلب مبدأ لقوى التغذية ولكن أفعالها فى الكبد ، ولقوى التخيل والتذكر والتصور ولكن أفعالها فى الدماغ ، بل ينبغى أن يكون المبدأ للقوى المختلفة غير صالح لأن يصدر عن معدنها جميع أفعالها ، بل يجب أن تتفرع فى آلات مختلفة تتخلق بعد ذلك العضو تخلقا وتفيض من ذلك العضو إليها قوة ملائمة لمزاج ذلك الفرع واستعداده ، على ما ستقف عليه فى ذكر الحيوان ، حتى لا يكون على العضو الذى هو المبدأ ثقل.
ولذلك خلقت العصب للدماغ والأوردة للكبد ، كانّ الدماغ والكبد مبدأين أولين للحس والحركة والتغذية أو كانا مبدأين ثانيين. وإذا فاض من القلب قوة التكوين والتخليق إلى الدماغ فيكوّن الدماغ ؛ فلا كثير بأس بأن يكون الدماغ يرسل من نفسه آلة يستمد بها الحس والحركة من القلب ،