والنهار ، وتفجّر هذه البحار ، وكثرة هذه الجبال ، وطول هذه القلال ، وتفرّق هذه اللغات ، والألسن المختلفات. فالويل لمن أنكر المقدّر ، وجحد المدبّر ، زعموا أنّهم كالنبات ما لهم زارع ، ولا لاختلاف صورهم صانع ، ولم يلجئوا إلى حجّة فيما ادّعوا ولا تحقيق لما أوعوا. وهل يكون بناء من غير بان ، أو جناية من غير جان؟!
وإن شئت قلت في الجرادة ، إذ خلق لها عينين حمراوين ، وأسرج لها حدقتين قمراوين. وجعل لها السمع الخفيّ ، وفتح لها الفم السويّ ، وجعل لها الحسّ القويّ ، ونابين بهما تقرض ، ومنجلين بهما تقبض ، يرهبها الزرّاع في زرعهم ، ولا يستطيعون ذبّها ولو أجلبوا بجمعهم ، حتى ترد الحرث في نزواتها ، وتقضي منه شهواتها. وخلقها كلّه لا يكون إصبعا مستدقّة.
فتبارك الله الذي يسجد له من في السموات والأرض طوعا وكرها ، ويعفر له خدّا ووجها ، ويلقي إليه بالطاعة سلما وضعفا ، ويعطي له القيادة رهبة وخوفا. فالطير مسخّرة لأمره. أحصى عدد الريش منها والنفس ، وأرسى قوائمها على الندى واليبس ، وقدّر أقواتها ، وأحصى أجناسها. فهذا غراب ، وهذا عقاب ، وهذا حمام ، وهذا نعام. دعا كل طائر باسمه ، وكفل له برزقه. وأنشأ السحاب الثقال فأهطل ديمها ، وعدّد قسمها ، فبلّ الأرض بعد جفوفها ، وأخرج نبتها بعد جدوبها (١).
وعن أبي جعفر عليهالسلام في قوله تعالى : ( وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ) (٢). قال : فمن لم يدلّه خلق السماوات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، ودوران الفلك بالشمس والقمر والآيات العجيبات على أنّ وراء ذلك أمرا هو أعظم منه فهو في الآخرة أعمى قال : فهو عمّا لم يعاين أعمى وأضلّ سبيلا (٣).
وروي أنّ عبد الله الديصاني أتى هشام بن الحكم ... فمضى عبد الله الديصاني حتى أتى باب أبي عبد الله عليهالسلام ، فاستأذن عليه فأذن له ، فلمّا قعد قال له : يا جعفر بن محمّد
__________________
(١) نهج البلاغة الخطبة ١٨٥ ، البحار ٣ : ٢٦ ، عن الاحتجاج.
(٢) الإسراء ٧٢.
(٣) البحار ٣ : ٢٨ ، عن الاحتجاج.