ثم إنّ هذه المباينة والغيريّة لا تزال ثابتة بلغ الإنسان ما بلغ من حدّ الكمال ، قال الله تعالى : ( وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً ) (١). وقال تعالى : ( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ) (٢).
يظهر ممّا ذكرنا أنّ ما يقال ، أو يتصوّر ، أو يعقل ، من الكيفيّات والأطوار والأحوال ، وسائر الجواهر والأعراض المفهومة كلّها ـ نظير الأمور المحسوسة بالحواسّ الظاهرة ـ أمور مظلمة يكون ظهورها بغيرها ، وهو العلم الخارج عنها.
فيعلم أنّ تقسيم العلم إلى الحضوريّ والحصوليّ ، وتعريف العلم الحضوريّ بحضور الشيء عند العالم ، والحصوليّ بحصول الشيء عند النفس ، أو بحصول صورة الشيء عندها ، أو بقبول النفس تلك الصورة ... كلّه أجنبيّ عن حقيقة العلم الظاهر بذاته ، فإنّ شيئا منها ليس ظاهرا بذاته ، ولا مظهرا لغيره ، بل كلّها ظاهرة بأمر آخر يكون هو العلم بها ، كما يشهد بذلك أنّك لو سألتهم : هل تعلمون حضور الشيء عند النفس أو هل تعلمون الصورة الحاصلة ، أو حصول تلك الصورة عند النفس لقالوا : نعم ، فيقال لهم : بما ذا تعلمونها؟ وبم صارت معلومة عندكم؟ فما يعلم به تلك الامور هو العلم ، لا تلك الامور نفسها.
ومنه يعلم حال التصوّر والتصديق اللّذين قسّم العلم الحصوليّ إليهما ، وأنّهما من أحوال النفس ، يعلمان بالعلم وليسا بقسمين منه.
ثم إنّهم يمثّلون للعلم الحضوريّ ـ وهو حضور الشيء عند النفس ـ بحضور الصورة الذهنيّة عندها ، وبحضور كلّ معلول عند علّته ، وقد علمت أنّ النفس والصور ، وكلّ علّة ومعلول ، وحضور الصور عند النفس ، وحضور كلّ معلول عند علّته كلها من الامور المكشوفة بالعلم ، وليست هي العلم.
__________________
(١) النحل ٧٨.
(٢) الحج ٥.