كما يظهر كلّ هذا من الذي ذكرناه في التبيان من جريان عادة اللّه بالامتحان ، ومن الذي يأتي في الباب الخامس من اقتضاء مصلحة رفع عذاب الاستئصال لزوم عدم التصريح والإلزام بالشيء في بعض الأحوال ، ومن الذي يأتي أيضاً في بحث المداراة والتقيّة وغير ذلك ، وكذا يظهر لك غاية تعسّف المخالفين في التمحّل والتمويه مهما رأوا شيئاً يلوح منه خلاف ما هم عليه ، حتّى أنّهم حينئذٍ يصيرون كأنّهم سكارى يلهجون بما هو مثل دعوى غروب الشمس في رابعة النهار .
ألا ترى إلى هؤلاء الذين قصدوا توجيه مثل هاتين الحكايتين اللّتين فيهما ما بيّنّاه علانية من أقسام المفاسد التي منها مخالفة اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله جهاراً فيما أخبرهم النبيّ صلىاللهعليهوآله مرّة بوقوع المخالف في الضلال ، واُخرى (١) بإصابة اللعن والنكال ؟ ! كيف قالوا صريحاً : إنّ غرض هؤلاء المخالفين كان إقامة مراسم الدين ؟ أكان دين ذلك اليوم غير تسليم ما فيه إطاعة اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ، أم كان المبعوث رحمة للعالمين يلعن مَن غرضه ترويج الشرع المبين ؟
اللّهمّ إلاّ أن يقال : مراد هؤلاء بالشرع والدين : خصوص خلافة من سُعي ذلك اليوم (٢) في خلافته لا مطلق ما جاء به سيّد المرسلين ، بل وإن استلزم مخالفته ، وقد نُقل عن أبي هاشم شيخ المعتزلة أنّه قال في كتابه الذي سمّاه بالجامع : فإن قيل : أفيجوز أن يخالف النبيّ صلىاللهعليهوآله فيما يأمر به ؟ قيل له : أمّا ما كان من ذلك من طريق الوحي فليس يجوز مخالفته على وجه من الوجوه ، وأمّا ما كان من ذلك على طريق الرأي فسبيله فيه سبيل
__________________
(١) في «م» : «مرّة» .
(٢) في «س» و«ن» و«ل» : «القوم» .