أَنْ يُغْوِيَكُمْ ، هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي من يرد الله فتنته فلن يملك أحد هدايته ، هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، وهو الفعال لما يريد ، وهو العزيز الحكيم ، العليم بمن يستحق الهداية ومن يستحق الغواية ، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة.
* * *
(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) تسلية له عما كان منهم إليه (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) وهذه تعزية لنوح عليهالسلام في قومه أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن ، أي لا يسوأنّك ما جرى فإن النصر قريب والنّبأ [عجب](١) عجيب.
(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ.)
وذلك أن نوحا عليهالسلام لما يئس من صلاحهم وفلاحهم ، ورأى أنهم لا خير فيهم ، وتوصلوا إلى أذيته ومخالفته وتكذيبه بكل طريق ، من فعال ومقال ، دعا عليهم دعوة غضب [الله عليهم](٢) فلبى الله دعوته وأجاب طلبته قال الله تعالى : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ* وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) وقال تعالى : (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) وقال تعالى : (قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ* فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وقال تعالى : (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) وقال تعالى : (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) وقال تعالى : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً* فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً* وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً).
فاجتمع عليهم خطاياهم من كفرهم وفجورهم ودعوة نبيهم عليهم.
فعند ذلك أمره الله أن يصنع الفلك ، وهي السفينة العظيمة التي لم يكن لها نظير قبلها ولا يكون بعدها مثلها.
وقدّم الله تعالى إليه أنه إذا جاء أمره وحلّ بهم بأسه الذي لا يردّ عن القوم المجرمين ، أنه لا يعاوده فيهم ولا يراجعه ؛ فإنه لعله قد تركه رقة على قومه عند معاينة العذاب النازل بهم ، فإنه ليس الخير كالمعاينة. ولهذا قال : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)
(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) أي يستهزئون به استبعادا لوقوع ما توعدهم به ، (قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) أي نحن الذين نسخر منكم ونتعجب منكم في استمراركم على كفركم وعنادكم الذي يقتضي وقوع العذاب بكم وحلوله عليكم. (فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم)
__________________
(١) من : و.
(٢) من : و.