يقول لهم : (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) أي النبوة والرسالة ، (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) أي فلم تفهموها ولم تهتدوا إليها ، (أَنُلْزِمُكُمُوها) أي أنغضبكم بها ونجبركم عليها؟ (وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) أي ليس لي فيكم حيلة والحالة هذه. (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) أي لست أريد منكم أجرة على إبلاغي إياكم ما ينفعكم في دنياكم وأخراكم ، إن أطلب ذلك إلا من الله الذي ثوابه خير لي ، وأبقى مما تعطونني أنتم.
وقوله تعالى : (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ ، وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) كأنهم طلبوا منه أن يبعد هؤلاء عنهم ، ووعدوه أن يجتمعوا به إذا هو فعل ذلك ، فأبى عليهم ذلك وقال : (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي فأخاف إن طردتهم أفلا تذكّرون.
ولهذا لما سأل كفار قريش رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يطرد عنه ضعفاء المؤمنين ، كعمّار وصهيب وبلال وخباب وأشباههم ، نهاه الله عن ذلك ، كما بيناه في سورتي الأنعام والكهف.
(وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) أي بل أنا عبد رسول ، لا أعلم من علم الله إلا ما أعلمني به ، ولا أقدر إلا على ما أقدرني عليه ، ولا أملك لنفسي نفعا ولا ضرّا إلا ما شاء الله. (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) يعني من أتباعه (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً ، اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي لا أشهد عليهم بأنهم لا خير لهم عند الله يوم القيامة. الله أعلم بهم وسيجازيهم على ما في نفوسهم إن خيرا فخير وإن شرّا فشر ، كما قالوا في المواضع الأخرى : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ* قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ* إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ* وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ* إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ).
* * *
وقد تطاول الزمان والمجادلة بينه وبينهم كما قال تعالى : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ) أي ومع هذه المدة الطويلة فما آمن به إلا القليل منهم.
وكان كلّما انقرض جيل وصّوا من بعدهم بعدم الإيمان به ومحاربته ومخالفته. وكان الوالد إذا بلغ ولده وعقل عنه كلامه ، وصاه فيما بينه وبينه ، ألا يؤمن بنوح أبدا ما عاش ودائما ما بقي.
وكانت سجاياهم تأبى الإيمان واتباع الحق ، ولهذا قال : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً).
ولهذا : (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ.)
[١١ / هود : ٣٢ ، ٣٣]
أي إنما يقدر على ذلك الله عزوجل ، فإنه الذي لا يعجزه شيء ولا يكترثه أمر ، بل هو الذي يقول للشيء كن فيكون ، ((وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ