(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) أي السادة الكبراء منهم : (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي لست كما تزعمون من أني ضال ، بل على الهدى المستقيم رسول من رب العالمين ، أي الذي يقول للشيء كن فيكون (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) وهذا شأن الرسول أن يكون بليغا ، أي فصيحا ناصحا ، أعلم الناس بالله عزوجل.
وقالوا له فيما قالوا : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا ، وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ ، وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ).
تعجّبوا أن يكون بشر رسولا ، وتنقصوا من اتبعه ورأوهم أراذلهم. وقد قيل إنهم من أفناد الناس وهم ضعفاؤهم ، كما قال هرقل : وهم أتباع الرسل ، وما ذاك إلا لأنه لا مانع لهم من اتباع الحق.
وقولهم : (بادِيَ الرَّأْيِ) أي بمجرد ما دعوتهم استجابوا لك من غير نظر ولا روية. وهذا الذي رموهم به هو عين ما يمدحون بسببه رضي الله عنهم ، فإن الحق الظاهر لا يحتاج إلى روية ولا فكر ولا نظر ، بل يجب اتباعه والانقياد له متى ظهر.
ولهذا قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم مادحا للصدّيق : «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر ، فإنه لم يتلعثم» ولهذا كانت بيعته يوم السّقيفة أيضا سريعة من غير نظر ولا روية ، لأنه أفضليته على من عداه ظاهرة جليّة عند الصحابة رضي الله عنهم. ولهذا قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما أراد أن يكتب الكتاب الذي أراد أن ينص فيه على خلافته فتركه ، قال : «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» (١) رضي الله عنه.
وقول كفرة قوم نوح له ولمن آمن به : (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي لم يظهر لكم أمر بعد اتصافكم بالإيمان ولا مزية علينا (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ* قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ).
وهذا تلطف في الخطاب معهم : وترفق بهم في الدعوة إلى الحق.
قال تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى.)
[٢٠ / طه : ٤٤]
وقال تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.)
[١٦ / النحل : ١٢٥]
__________________
(١) الحديث رواه مسلم في صحيحه (٤٤ / ١ / ١١) ونصه : عن عائشة : قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم في مرضه : «ادعي لي أبا بكر ، وأخاك ، حتى أكتب كتابا ، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى. ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر».
ورواه أبو داود في سننه (١٦ / ١١ / حلبي). ورواه أحمد في مسنده (٤ / ٣٢٢ / ، ٦ / ٣٤ ، ٤٧ ، ١٠٦ ، ١٤٤ / حلبي).