فلا مطمع في أن يؤمن أمثال هؤلاء. فللإيمان الصادق طبيعة أخرى واستعداد آخر : إنّ الطبيعة المؤمنة سمحة هيّنة ليّنة ، مفتّحة المنافذ للأضواء وللاتّصال بالنبع الأزلي الخالد أمّا الفريق المشار إليه هم أعلم اليهود وأعرفهم بالحقيقة المنزلة عليهم ، وهم الأحبار وكبراء القوم ، كانت طبيعتهم سبخة سمجة ذات انحراف شديد .. ومن ثمّ لا تنصاع للحقّ إلّا فيما وافق مطامعهم. وفيما عدا ذلك يؤوّلون النصّ الصريح حيث ساق بهم الهوى.
ومن ثمّ هذا التخاتل والنفاق الفاضح ، كانوا (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا) عن خبث ولؤم : (آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا) عقابا لمن صرّح بالحقّ : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) أي أتحدّثون المسلمين ـ بكلّ بساطة ـ بما فتح الله عليكم من صدق شريعة الله النازلة على محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) يلزموكم يوم القيامة بما اعترفتم به من الحقّ ، فيكون حجّة عليكم! (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أفلا تتعقّلون المصلحة في الكتمان والمفسدة في الإفشاء.
أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وهم يضيفون إلى خراب الذمّة وكتمان الحقّ وتحريف الكلم عن مواضعه ، الرياء والنفاق والخداع والمراوغة؟!
كان بعضهم إذا لقوا المؤمنين قالوا : آمنّا بأنّ محمّدا مرسل ، بحكم ما عندنا من دلائل نبوّته والبشارة بمقدمه ، وبحكم أنّهم كانوا ينتظرون بعثته ، ويتوقّعون أن ينصرهم الله به على من عداهم (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا)(١).
ولكن عند ما كان يختلي بعضهم إلى بعض ، عاتبوهم على ما أفضوا للمسلمين من صحّة رسالة الإسلام وأنّ ذلك سيعود حجّة لهم عليكم؟!
وهنا نراهم قد تداركتهم طبيعتهم المحتجبة عن معرفته تعالى وأنّه يعلم ما في الصدور. وأنّه سوف يؤاخذهم على نيّاتهم وسوء تصرّفاتهم ، سواء أخفوها أم أعلنوها (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)؟!
__________________
(١) البقرة ٢ : ٨٢.