وقال العلّامة المجلسي رحمهالله : إنّه تعالى لمّا لم يصرفها عن إرادتهما ووكلهما إلى اختيارهما ، نظرا لمصالح عظيمة ، فكأنّه تعالى شاء ذلك. (١)
قلت : هذه المسألة تعود إلى مسألة الأمر بين الأمرين ، وموضع إذنه تعالى في وقوع أفعال العباد الاختياريّة. فلا يقع شيء إلّا من بعد إذنه تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)(٢) أي لا يتحقّق فعل ما تشاؤونه ، إلّا من بعد أن يأذن الله سواء أكان خيرا أم شرّا. (٣)(وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)(٤). أي لا يتحقّق الضرر الذي أريد ، إلّا من بعد إذنه تعالى.
وهذه الإرادة ـ المعبّر عنها بالإذن في المصطلح القرآني ـ إرادة حادثة تابعة لإرادة العبد ، تحقيقا لمبدأ الاختيار في التكليف ـ كما نبّهنا في مجال سابق ـ حيث كان التكليف للاختبار ، ولا اختبار إلّا مع الاختيار. فالله تعالى هو الذي يمهّد السبل لاختيار الهدى أو الضلال. (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ)(٥). (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها)(٦).
ومن ثمّ كان تعالى يسند كلّا من الإضلال والهداية إلى نفسه (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ)(٧). والإضلال هنا بمعنى الخذلان (٨) ، أي الإيكال إلى العبد وما يختار ، بعد أن لم تنفعه الهداية وسلك سبيل الغواية عن عناد ولجاج ..
فقد كان كلّ من الإضلال والهداية عن حكمة رشيدة وليس اعتباطا وبلا هوادة .. ومن ثمّ جاء التعقيب بقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً)(٩).
قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)
[٢ / ٣١٣١] أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس ، قال : قال حريملة
__________________
(١) البحار ٤ : ١٣٩ ـ ١٤٠ ؛ مراة العقول ٢ : ١٦١.
(٢) الإنسان ٧٦ : ٣٠.
(٣) إذ لا مؤثّر في الوجود إلّا الله.
(٤) البقرة ٢ : ١٠٢.
(٥) البلد ٩٠ : ١٠.
(٦) الشمس ٩١ : ٧ ـ ١٠.
(٧) النحل ١٦ : ٩٣.
(٨) راجع : التمهيد ٣ : ١٨١ وما بعد.
(٩) الإنسان ٧٦ : ٣٠.