فاعل على بابه ، وقوله : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) : يريد : إلا الله الرّاحم ، ف «من» كناية عن الله ، المعنى : لا عاصم اليوم إلا الذي رحمنا.
(وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ)(٤٨)
وقوله سبحانه : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ...) الآية : البلع : تجرّع الشيء ؛ وازدراده ، والإقلاع عن الشيء : تركه ، و (غِيضَ) معناه : نقص ، وأكثر ما يجيء فيما هو بمعنى الجفوف ، وقوله : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) : إشارة إلى جميع القصّة : بعث الماء ، وإهلاك الأمم ، وإنجاء أهل السفينة.
قال* ع (١) * : وتظاهرت الروايات وكتب التفسير بأنّ الغرق نال جميع أهل الأرض ، وعمّ الماء جميعها ؛ قاله ابن عباس وغيره ، وذلك بيّن من أمر نوح بحمل الأزواج من كلّ الحيوان ، ولو لا خوف فنائها من جميع الأرض ، ما كان ذلك ، وروي أنّ نوحا عليهالسلام ركب في السفينة من عين الوردة بالشام أوّل يوم من رجب ، واستوت [السفينة] على الجوديّ في ذي الحجّة ، وأقامت عليه شهرا ، وقيل له : (اهْبِطْ) في يوم عاشوراء ، فصامه هو ومن معه ، وروي أنّ الله تعالى أوحى إلى الجبال ؛ أنّ السفينة ترسي على واحد منها ، فتطاولت كلّها ، وبقي الجوديّ ، وهو جبل بالموصل في ناحية الجزيرة ، لم يتطاول ؛ تواضعا لله ؛ فاستوت السفينة بأمر الله عليه ، وقال (٢) الزّجّاج : الجوديّ : هو بناحية «آمد» ، وقال قوم : هو عند باقردى ، وأكثر النّاس في قصص هذه الآية ، والله أعلم بما صحّ من ذلك.
وقوله : (وَقِيلَ بُعْداً) : يحتمل أن يكون من قول الله عزوجل ؛ عطفا على قوله : (وَقِيلَ) الأول ، ويحتمل أن يكون من قول نوح والمؤمنين ، والأول أظهر.
وقوله : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ...) الآية : احتجاج من نوح عليهالسلام أنّ الله أمره
__________________
(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٣ / ١٧٥)
(٢) ينظر : «معاني القرآن» للزجاج (٣ / ٥٥)