تعالى عليه وسلم «والّذي نفسي بيده ، لا يقولها رجل منهم إلا غصّ بريقه» (١) ، يعني : يموت مكانه ، قال أبو محمّد الأصيليّ (٢) : من أعجب أمرهم ؛ أنّه لا توجد منهم جماعة ولا واحد من يوم أمر الله تعالى بذلك نبيّه يقدّم عليه (٣) ، ولا يجيب إليه ، وهذا موجود مشاهد لمن أراد أن يمتحنه منهم. انتهى من «الشّفا».
والمراد بقوله : (فَتَمَنَّوُا) : أريدوه بقلوبكم ، واسألوه ، هذا قول جماعة من المفسّرين ، وقال ابن عبّاس : المراد به السؤال فقط ، وإن لم يكن بالقلب (٤) ، ثم أخبر تعالى عنهم بعجزهم ، وأنهم لا يتمنّونه أبدا ، وأضاف ذنوبهم واجترامهم إلى الأيدي ؛ إذ الأكثر من كسب (٥) العبد الخير والشرّ ، إنما هو بيديه ، فحمل جميع الأشياء على ذلك.
__________________
(١) ينظر : «تفسير ابن كثير» (١ / ١٨٢) ، الغصة : ما تقف في الحلق ، فتمنع النفس حتى تهلكه ، وغص بريقه : وقع الموت به سريعا.
وقد ورد هذا موقوفا على ابن عباس ، أخرجه الطبري وابن أبي حاتم وينظر : «الدر المنثور» (١ / ١٧٣)
(٢) عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن جعفر ، أبو محمد ، الأموي ، المعروف بالأصيلي : عالم بالحديث ، والفقه. من أهل «أصيلة» (في «المغرب») أصله من كورة «شبدونة» ولد فيها سنة ٣٢٤ ه ، ورحل به أبوه إلى «أصيلا» من بلاد العدوة ، فنشأ فيها ، ويقال : ولد في «أصيلا». رحل في طلب العلم ، فطاف في «الأندلس» والمشرق ، ودخل «بغداد» سنة ٣٥١ ه ، وعاد إلى «الأندلس» في آخر أيام المستنصر ، فمات ب «قرطبة» ، له كتاب «الدلائل على أمهات المسائل» في اختلاف مالك والشافعي وأبي حنيفة.
ينظر : «الأعلام» (٤ / ٦٣) ، و «جذوة المقتبس» (٢٣٩)
(٣) يقدم عليه أي : على تمني الموت. ولا يجيب إليه : أي إلى تمنيه ، إذا قيل له : تمنه.
(٤) ذكره السيوطي في «الدر» (١ / ١٧٢) بلفظ : «فاسألوا الموت» ، وعزاه لابن جرير.
وذكره ابن عطية الأندلسي في «التفسير» (١ / ١٨١) بلفظ : «السؤال فقط وإن لم يكن بالقلب». قاله ابن عباس.
(٥) الكسب أصله في اللغة : الجمع ، قاله الجوهري : وهو طلب الرزق ، يقال : كسبت شيئا واكتسبته بمعنى ، وكسبت أهلي خيرا ، وكسبت الرجل مالا فكسب ، وهذا مما جاء على فعلته ففعل. والكواسب : الجوارح ، وتكسب : تكلف الكسب ، والكسب قد وقع في القرآن على ثلاثة أوجه :
أحدها : عقد القلب وعزمه ، كقوله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) [البقرة : ٢٢٥] أي بما عزمتم عليه وقصدتموه.
الوجه الثاني : من الكسب : كسب المال من التجارة ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) [البقرة : ٢٦٧]. فالأول للتجار ، والثاني للزراع.
الوجه الثالث : من الكسب : السعي والعمل ، كقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : ٢٨٦] وقوله : (بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) [الأعراف : ٣٩](وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) [الأنعام : ٧٠] فهذا كله للعمل ، واختلف الناس في الكسب والاكتساب ، هل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق؟ ـ