وذهبت أرواحهم ، ثم ردّوا ؛ لاستيفاء آجالهم ، فحين حصلوا في ذلك الهمود ، جعل موسى
__________________
ـ وكان سلوكهم بهذا الطريق كافيا في الاستدلال على الوقوع بالدليل النقلي ، وتفصيل ذلك مذكور في كتب العقائد.
وكذلك اتفقت كلمة الأشاعرة على وقوع رؤيته (تعالى) في الآخرة ، واستدلوا على ذلك بالكتاب ، والسنة ، والإجماع :
أما دلالة الكتاب : فقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ـ ٢٣] فالآية صريحة في أن وجوه المؤمنين المخلصين يوم القيامة متهللة من عظيم المسرة ، يشاهد عليها نضرة النعيم. (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) أن تراه مستغرقة في مطالعة جماله ، بحيث تغفل عما سواه ؛ ففي حديث جابر ، وقد رواه ابن ماجة : «فينظر إليهم ، وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحجب عنهم» والحجاب من قبلهم لا من قبله (عزوجل) ، فهذا يدل على أن المراد من النظر حقيقته ، وهو الرؤية.
ووجه الاحتجاج في الآية الكريمة : أن النظر في الآية جاء موصولا بإلى ، وكل ما كان كذلك فهو بمعنى الرؤية ، فالنظر في الآية بمعنى الرؤية.
أما الصغرى ، فدليلها الآية ، وأما الكبرى ، فيستدل لها بشهادة النقل عن أئمة اللغة وتتبع موارد الاستعمال ، فقد نقل عن أهل اللغة أن للنظر معان عدة يتميز بعضها عن بعض بواسطة التعدية ؛ فقد جاء النظر بمعنى الانتظار متعديا بنفسه قال الله تعالى : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) [الحديد : ١٣] أي : انتظرونا ، وقول الشاعر : [الوافر]
وإن يك صدر هذا اليوم ولى |
|
فإن غدا لناظره قريب |
أي ينتظره.
وجاء بمعنى التفكر ويستعمل ب «في» يقال : نظرت في الأمر الفلاني ، أي تفكرت فيه : وجاء بمعنى الرأفة والتعطف ، ويتعدى باللام ، يقال : نظر الأمير لفلان ، أي رأف به وتعطف.
وجاء بمعنى الرؤية ، ويستعمل ب «إلى» قال الشاعر : [الطويل]
نظرت إلى من أحسن الله وجهه |
|
فيا نظرة كادت على رامق تقضي |
ومثل ذلك النظر في الآية ؛ إذ جاء موصولا ب «إلى» ، فيجب حمله على الرؤية ، فتكون واقعة في ذلك اليوم ، وهو المطلوب. ولا يعكر أن النظر المستعمل ب «إلى» يأتي بمعنى آخر غير الرؤية كالتأخير كما في قوله تعالى : (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) [البقرة : ٢٨٠]. لأن لفظة «إلى» في الآية ليست صلة للنظر ، بل لبيان المدة.
وقد اعترضت المعتزلة هذا الدليل ، فمنعت صغراه (النظر في الآية موصول بإلى) قالوا : لا نسلم أن النظر في الآية موصول ب «إلى» ؛ لأنها ليست حرفا ، بل هي اسم بمعنى النعمة واحد الآلاء ، ومفعول به للنظر ، يشهد لذلك ما قيل عن أهل اللغة أن الآلاء واحدها آلى ، وأيلى ، وألو ، وألى ، وإلى. قال الأعشى :
أبيض لا يرهبه النزال ولا |
|
يقطع رحما ولا يخون إليّ |
أي نعمة أو بمعنى «عند» يؤيده قول الشاعر :
فهل لكم فيما إلى فإنني |
|
طبيب بما أعيى النطاس حذيما |
أي فيما عند. ـ