وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ)
اختلف فيه.
قال بعضهم : هو على التخيير إذا رفعوا إلى الإمام : إن شاء حكم بينهم ، وإن شاء أعرض ولم يحكم (١) ، لكنه منسوخ بقوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) [المائدة : ٤٩] : أمر بالحكم بينهم إذا جاءوا ، ونهى أن يتبع أهواءهم ، وفي ترك الحكم بينهم اتباع هواهم ، وقال : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ)(٢)(وَاحْذَرْهُمْ). قالوا : هو منسوخ بهذه الآية (٣) ، وأمكن الجمع بينهما ، وهو أن قوله ـ تعالى ـ : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) في قوم من أهل الحرب دخلوا دار الإسلام بأمان ، فرفعوا إلى الإمام أمرهم ؛ فالإمام بالخيار : إن شاء ردهم إلى مأمنهم ، أو نقض عليهم أمانهم ، ولم يحكم بينهم ، وإن شاء تركهم وحكم بينهم ؛ فذلك معنى التخيير ، والله أعلم.
وأما قوله : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ) [المائدة : ٤٩] : فذلك في أهل الذمة الراضين بحكمنا ، إذا رفعوا إلى الحاكم يجب أن يحكم بينهم ، ولا يرد عليهم ما طلبوا منه من إجراء الحكم عليهم ؛ [لأنه](٤) ليس له فسخ (٥) ما أعطى لهم من العهود والمواثيق ، وهم قد رضوا بحكمنا ؛ لذلك لزم الحكم بينهم ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً)
يحتمل هذا وجهين :
يحتمل : أن يقع الإعراض عنهم موقع الجفاء ، ويعدون ذلك جفاء ؛ فأمن ـ عزوجل ـ نبيه ـ عليهالسلام ـ عن أن يلحقه ضرر منهم.
ويحتمل قوله : (فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) أي : ليس عليك من ضرر ما هم فيه ؛ فإنما ضرر ذلك عليهم ؛ وهو كقوله : (فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) [النور : ٥٤] وكقوله ـ تعالى ـ : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ ...) الآية [الأنعام : ٥٢].
__________________
(١) قاله إبراهيم والشعبي وعطاء وقتادة ، أخرج آثارهم الطبري (٤ / ٤٨٥) ، وغيره. ينظر : الدر المنثور (٢ / ٥٠٤).
(٢) زاد في أ : أمر بالحكم بينهم إذا جاءوا أو نهي أن يتبع أهواءهم.
(٣) قال بالنسخ : عكرمة والحسن ، أخرجه الطبري عنهما (٤ / ٥٨٥) ، رقم (١١٩٩١) ، وما بعده.
(٤) في أ : لأنهم به.
(٥) في ب : نسخ.