ثم المنع لهم يكون من وجهين :
أحدهما : منع من جهة منع الإنزال ؛ لقلة الأمطار والقحط ؛ كسني يوسف ـ عليهالسلام ـ وسني مكة ، على ما كان لهم من القحط.
والثاني : منع من جهة الخلق : ألا يعطوا شيئا ، لا بيعا ولا شراء ولا معروفا.
ولكن في آية أخرى بيان أن قوله : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) ـ أنه على التحريم ، ليس على المنع ، وهو قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) [الأنعام : ١٤٦] : أخبر ـ عزوجل ـ أن ذلك جزاء بغيهم ؛ فدل ما ذكرنا في الآية أن ذلك على حقيقة التحريم ؛ لما يحتمل أن يكونوا لا يستحلون ما ذكر في الآية ، ولكن كانوا يتناولون الربا على غير الاستحلال ؛ فحرم ذلك عليهم.
وفي قوله ـ تعالى ـ : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) دلالة لأصحابنا ـ رحمهمالله ـ في قولهم : إن من قد أقرّ ، فقال : هذا الشيء لفلان اشتريته منه ـ أنه له ، ولا يؤخذ منه ؛ وإلا في ظاهر قوله : هذا الشيء لفلان اشتريته منه ـ أنه إذا اشتراه منه لا يكون لفلان ؛ فيكون ذلك منه إقرارا له ، لكنه على الإضمار ؛ كأنه قال : هذا الشيء كان لفلان اشتريته منه.
وكذلك قوله : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) أي : كانت أحلت لهم ، وكذلك في حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وحرف ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : «حرمنا عليهم طيبات كانت أحلت لهم».
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً)
أي : بصدهم الناس عن سبيل الله كثيرا ، يحتمل هذا وجهين :
يحتمل : أنهم صدوا من يستجهلون ويستسفهون عن سبيل الله : كانوا يدلون على الباطل وعلى غير سبيل الله ، فذلك الصد محتمل.
ويحتمل : أنهم كانوا يصدون عن سبيل الله بالقتال والحرب.
وقوله : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ)(١).
__________________
(١) قال القرطبي (٦ / ١٠) : قال ابن العربي : لا خلاف في مذهب مالك أن الكفار مخاطبون ، وقد بين الله في هذه الآية أنهم قد نهوا عن الربا ، وأكل الأموال بالباطل ؛ فإن كان ذلك خبرا عما نزل على محمد في القرآن وأنهم دخلوا في الخطاب فبها ونعمت ، وإن كان خبرا عما أنزل الله على موسى في التوراة ، وأنهم بدلوا وحرفوا وعصوا وخالفوا ، فهل يجوز لنا معاملتهم والقوم قد أفسدوا أموالهم في دينهم أم لا؟ فظنت طائفة أنّ معاملتهم لا تجوز ؛ وذلك لما في أموالهم من هذا الفساد ، والصحيح جواز معاملتهم مع رباهم ، واقتحام ما حرم الله سبحانه عليهم ؛ فقد قام الدليل القاطع على ذلك ـ