ففي هذه الآيات دلالة لزوم الاجتهاد وتكليف ما لا يوصل إلى معرفة المكلف به إلا بالتدبر والعرض على الأمور المعتادة أو الأسباب المعقولة في جعلها أسبابا للمصلحة ، وسبلا للوقوف على ما في أصول تلك النوازل من الحكمة ، ولا قوة إلا بالله.
ثم جعل تأديبهن إلى الأزواج ، لا إلى الأئمة ؛ إذ عقوبة الأئمة تكون بالضرب أو الحبس وما يلحقها من المكروه فيما له أمر بالتأديب مع ما في ذلك من الستر ، ويكون الغالب منه ما لا يجد لسبيل (١) الإظهار عند الحاكم ، ويكون في أوقات تضيق عن احتمال ذلك ، ويكون ذلك أصلا لتأديب كل كافل أحد من الأيتام والصغائر ، وغير ذلك ، والله أعلم.
والأصل : أن الله ـ تعالى ـ قال : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم : ٢١] فجعل التأديب من الوجه الذي فيه حفظ المجعول لنا ـ آية ، ورعاية ما جعل بينهم من المودة والرحمة ، والمنازعات والخصومات إلى الحكام يقطع (٢) تلك ؛ فجعل لهم من ذلك قدر ما لا يقطع مثله من التأديب المعنى المجعول بينهم ؛ ولذلك لم تأذن (٣) بالضرب المبرح ، ولا أذن إلا عند انقطاع الحيل التي جعلت للألفة والمحبة ، على أن في خفيف ذلك إظهار الإشفاق على ما اعترض من خوف انقطاع المودة والرحمة ، وإبداء العتاب الذي هو آية النصح والرحمة ؛ إذ ذلك مما يخاف في ترك ذلك تمام ما قد افتتح من السرّ والشفقة ، والله أعلم.
وقيل في قوله ـ تعالى ـ : (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) : بما ساقوا من المهر والنفقة (٤).
وقوله ـ تعالى ـ : (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ)(٥)
__________________
(١) في ب : بسبيل.
(٢) في ب : بقطع.
(٣) في ب : يؤذن.
(٤) أخرجه ابن جرير (٨ / ٢٩٣) (٩٣١١) عن ابن عباس ، و (٩٣١٣) عن الثوري ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٧١) وعزاه لابن جرير عن الثوري.
(٥) قال القرطبي (٥ / ١١٢ ـ ١١٣) : فإن الزوج إذا أعرض عن فراشها فإن كانت محبة للزوج فذلك يشق عليها فترجع للصلاح ، وإن كانت مبغضة فيظهر النشوز منها ؛ فيتبين أن النشوز من قبلها ، وقيل : «اهجروهن» من الهجر وهو القبيح من الكلام ، أي غلظوا عليهن في القول ، وضاجعوهن للجماع وغيره ؛ قال معناه سفيان ، وروي عن ابن عباس ، وقيل : أي : شدوهن وثاقا في بيوتهن ؛ من قولهم : هجر البعير أي ربطه بالهجار ، وهو حبل يشد به البعير ، وهو اختيار الطبري ، وقدح في سائر الأقوال ، وفي كلامه في هذا الموضع نظر.