من الشمع والقذى والعكر والكدر (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي : لأهل الجنة في الجنة مع ما ذكر من الأشربة من كل الثمرات ، أي : من كلّ صنف من أصنافها ، و (مِنْ) زائدة للتوكيد (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) لذنوبهم ، وتنكير مغفرة للتعظيم ، أي : ولهم مغفرة عظيمة كائنة من ربهم (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) هو خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير : أم من هو في نعيم الجنة على هذه الصفة خالدا فيها كمن هو خالد في النار ، أو خبر لقوله : مثل الجنة كما تقدّم. ورجح الأوّل الفراء فقال : أراد أمن كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار. وقال الزجاج : أي أفمن كان على بينة من ربه ، وأعطى هذه الأشياء ، كمن زيّن له سوء عمله وهو خالد في النار؟ فقوله : (كَمَنْ) بدل من قوله : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) وقال ابن كيسان : ليس مثل الجنة التي فيها الثمار والأنهار كمثل النار التي فيها الحميم والزقوم ، وليس مثل أهل الجنة في النعيم كمثل أهل النار في العذاب الأليم ، وقوله : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) عطف على الصلة عطف جملة فعلية على اسمية ، لكنه راعى في الأولى لفظ من ، وفي الثانية معناها ، والحميم : الماء الحارّ الشديد الغليان ، فإذا شربوه قطع أمعاءهم ، وهو معنى قوله : (فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) لفرط حرارته. والأمعاء : جمع معي ، وهي ما في البطون من الحوايا. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) أي : من هؤلاء الكفار الذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام من يستمع إليك ، وهم المنافقون. أفرد الضمير باعتبار لفظ من ، وجمع في قوله : (حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ) باعتبار معناها ، والمعنى : أن المنافقين كانوا يحضرون مواقف وعظ رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومواطن خطبه التي يمليها على المسلمين ، حتى إذا خرجوا من عنده (قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وهم علماء الصحابة ، وقيل : عبد الله بن عباس ، وقيل : عبد الله بن مسعود ، وقيل : أبو الدرداء ، والأوّل أولى ، أي : سألوا أهل العلم ، فقالوا لهم : (ما ذا قالَ آنِفاً) أي : ماذا قال النبيّ الساعة على طريقة الاستهزاء ، والمعنى :
أنا لم نلتفت إلى قوله ، وآنفا يراد به الساعة التي هي أقرب الأوقات ، ومنه أمر أنف ، أي : مستأنف ، وروضة أنف ، أي : لم يرعها أحد ، وانتصابه على الظرفية ، أي : وقتا مؤتنفا ، أو حال من الضمير في قال. قال الزجاج : هو من استأنفت الشيء ؛ إذا ابتدأته ، وأصله مأخوذ من أنف الشيء لما تقدّم منه ، مستعار من الجارحة ، ومنه قول الشاعر (١) :
ويحرم سرّ جارتهم عليهم |
|
ويأكل جارهم أنف القصاع |
والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى المذكورين من المنافقين (الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) فلم يؤمنوا ولا توجهت قلوبهم إلى شيء من الخير (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي : في الكفر والعناد. ثم ذكر حال أضدادهم فقال (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) أي : والذين اهتدوا إلى طريق الخير ، فآمنوا بالله وعملوا بما أمرهم به زادهم هدى بالتوفيق ، وقيل : زادهم النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وقيل : زادهم القرآن. وقال الفراء : زادهم إعراض المنافقين واستهزاؤهم هدى. وقيل : زادهم نزول الناسخ هدى ، وعلى كل تقدير فالمراد أنه زادهم إيمانا وعلما
__________________
(١). هو الحطيئة.