خوّف سبحانه الكفار بأنه قد أهلك من هو أشدّ منهم ، فقال : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ) قد قدّمنا أن «كأين» مركبة من الكاف وأيّ ، وأنها بمعنى كم الخبرية ؛ أي : وكم من قرية ، وأنشد الأخفش قول الوليد (١) :
وكأين رأينا من ملوك وسوقة |
|
ومفتاح قيد للأسير المكبل |
ومعنى الآية : وكم من أهل قرية هم أشدّ قوة من أهل قريتك التي أخرجوك منها أهلكناهم (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) فبالأولى من هو أضعف منهم وهم قريش الذين هم أهل قرية النبي صلىاللهعليهوسلم وهي مكة ، فالكلام على حذف المضاف ؛ كما في قوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) قال مقاتل : أي أهلكناهم بالعذاب حين كذّبوا رسولهم. ثم ذكر سبحانه الفرق بين حال المؤمن وحال الكافر فقال : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) والهمزة للإنكار ، والفاء للعطف على مقدّر كنظائره ، ومن مبتدأ ، والخبر (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) وأفرد في هذا باعتبار لفظ من ، وجمع في قوله : (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) باعتبار معناها ، والمعنى : أنه لا يستوي من كان على يقين من ربّه ولا يكون كمن زيّن له سوء عمله ، وهو عبادة الأوثان ، والإشراك بالله ، والعمل بمعاصي الله ، واتبعوا أهواءهم في عبادتها ، وانهمكوا في أنواع الضلالات ، بل شبهة توجب الشك فضلا عن حجّة نيّرة. ثم لمّا بيّن سبحانه الفرق بين الفريقين في الاهتداء والضلال بيّن الفرق في مرجعهما ومآلهما ، فقال : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) والجملة مستأنفة لشرح محاسن الجنة وبيان ما فيها ، ومعنى (مَثَلُ الْجَنَّةِ) وصفها العجيب الشأن ، وهو مبتدأ وخبره محذوف. قال النضر بن شميل : تقديره ما يسمعون ، وقدّره سيبويه : فيما يتلى عليكم مثل الجنة ، قال : والمثل هو الوصف ، ومعناه وصف الجنة ، وجملة (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) إلخ ، مفسرة للمثل. وقيل : إنّ «مثل» زائدة ، وقيل : إن مثل الجنة مبتدأ ، والخبر فيها أنهار ، وقيل : خبره كمن هو خالد ، والآسن : المتغير ، يقال : أسن الماء يأسن أسونا ؛ إذا تغيرت رائحته ، ومثله الآجن ، ومنه قول زهير :
قد أترك القرن مصفرّا أنامله |
|
يميد في الرّمح ميد الماتح الآسن |
قرأ الجمهور : (آسِنٍ) بالمدّ. وقرأ حميد وابن كثير بالقصر ، وهما لغتان كحاذر وحذر. وقال الأخفش : إن الممدود يراد به الاستقبال ، والمقصور يراد به الحال (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) أي : لم يحمض كما تغير ألبان الدنيا ؛ لأنها لم تخرج من ضروع الإبل والغنم والبقر (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) أي : لذيذة لهم ، طيبة الشرب ، لا يتكرهها الشاربون ، يقال : شراب لذّ ولذيذ وفيه لذة بمعنى ، ومثل هذه الآية قوله : (بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) قرأ الجمهور (لَذَّةٍ) بالجرّ صفة لخمر ، وقرئ بالنصب على أنه مصدر ، أو مفعول له. وقرئ بالرفع صفة لأنهار (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) أي : مصفّى ممّا يخالطه
__________________
(١). في تفسير القرطبي : لبيد.