للنهي ، أي : هو أعلم بمن أتقى عقوبة الله وأخلص العمل له. قال الحسن : وقد علم سبحانه من كلّ نفس ما هي عاملة ، وما هي صانعة ، وإلى ما هي صائرة. ثم لمّا بيّن سبحانه جهالة المشركين على العمون خصّ بالذمّ بعضهم ، فقال : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) أي : تولى عن الخير ، وأعرض عن اتباع الحق (وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) أي : أعطى عطاء قليلا ، وأعطى شيئا قليلا ، وقطع ذلك وأمسك عنه ، وأصل أكدى من الكدية وهي الصّلابة ، يقال : لمن حفر بئرا ثم بلغ فيها إلى حجر لا يتهيأ له فيه حفر : قد أكدى ، ثم استعملته العرب لمن أعطى فلم يتمّ ، ولمن طلب شيئا فلم يبلغ آخره ، ومنه قول الحطيئة :
فأعطى قليلا ثم أكدى عطاءه |
|
ومن يبذل المعروف في النّاس يحمد |
قال الكسائي وأبو زيد : [أكدى الحافر وأجبل : إذا بلغ في حفره كدية أو جبلا ، فلا يمكنه أن يحفر. وحفر فأكدى : إذا بلغ إلى الصّلب] (١). ويقال : كديت أصابعه : إذا محلت (٢) من الحفر ، وكديت يده : إذا كلّت فلم تعمل شيئا ، وكدت الأرض : إذا قلّ نباتها ، وأكديت الرجل عن الشيء رددته ، وأكدى الرجل : إذا قلّ خيره. قال الفراء : معنى الآية : أمسك من العطية وقطع. وقال المبرد : منعه منعا شديدا. قال مجاهد وابن زيد ومقاتل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، وكان قد اتبع رسول الله صلىاللهعليهوسلم على دينه ، فعيّره بعض المشركين فترك ورجع إلى شركه. قال مقاتل : كان الوليد مدح القرآن ، ثم أمسك عنه فأعطى قليلا من لسانه من الخير ثم قطعه. وقال الضحاك : نزلت في النضر بن الحارث. وقال محمد بن كعب القرظي : نزلت في أبي جهل. (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، والمعنى : أعند هذا المكدي علم ما غاب عنه أمر العذاب ، فهو يعلم ذلك (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى ـ وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) أي : ألم يخبر ولم يحدّث بما في صحف موسى؟ يعني أسفاره ، وهي التوراة ، وبما في صحف إبراهيم الّذي وفي ، أي : تمّم وأكمل ما أمر به. قال المفسرون : أي : بلّغ قومه ما أمر به وأدّاه إليهم ، وقيل : بالغ في الوفاء بما عاهد الله عليه. ثم بيّن سبحانه ما في صحفهما فقال : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي : لا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى ، ومعناه : لا تؤخذ نفس بذنب غيرها ، و «أن» هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن مقدّر ، وخبرها الجملة بعدها ، ومحل الجملة الجرّ على أنها بدل من صحف موسى وصحف إبراهيم ، أو الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف ، وقد مضى تفسير هذه الآية في سورة الأنعام (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) عطف على قوله : (أَلَّا تَزِرُ) وهذا أيضا ممّا في صحف موسى ، والمعنى : ليس له إلا أجر سعيه وجزاء عمله ، ولا ينفع أحدا عمل أحد ، وهذا العموم مخصوص بمثل قوله سبحانه : (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (٣) ، وبمثل ما ورد في شفاعة الأنبياء والملائكة للعباد ومشروعية دعاء الأحياء للأموات ونحو ذلك ،
__________________
(١). من تفسير القرطبي (١١ / ١١٢)
(٢). في تفسير القرطبي : كلّت.
(٣). الطور : ٢١.