ولم يصب من قال : إن هذه الآية منسوخة بمثل هذه الأمور ، فإن الخاصّ لا ينسخ العام ، بل يخصصه ، فكل ما قام الدليل على أن الإنسان ينتفع به وهو من غير سعيه كان مخصصا لما في هذه الآية من العموم. (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) أي : يعرض عليه ويكشف له يوم القيامة (ثُمَّ يُجْزاهُ) أي : يجزى الإنسان سعيه ، يقال : جزاه الله بعمله وجزاه على عمله ، فالضمير المرفوع عائد إلى الإنسان والمنصوب إلى سعيه. وقيل : إن الضمير المنصوب راجع إلى الجزاء المتأخر وهو قوله : (الْجَزاءَ الْأَوْفى) فيكون الضمير راجعا إلى متأخّر عنه هو مفسر له ، ويجوز أن يكون الضمير المنصوب راجعا إلى الجزاء الّذي هو مصدر يجزاه ، ويجعل الجزاء الأوفى تفسيرا للجزاء المدلول عليه بالفعل ، كما في قوله : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ) (١) قال الأخفش : يقال : جزيته الجزاء (٢) وجزيته بالجزاء سواء لا فرق بينهما (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) أي : المرجع والمصير إليه سبحانه لا إلى غيره فيجازيهم بأعمالهم.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) قال : الكبائر : ما سمّى الله فيه النار ، والفواحش : ما كان فيه حدّ الدنيا. وأخرج البخاري ومسلم وغير هما عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تتمنّى وتشتهي ، والفرج يصدّق ذلك أو يكذبه». وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي ، في الشعب ، عن ابن مسعود في قوله : (إِلَّا اللَّمَمَ) قال : زنا العينين : النظر ، وزنا الشفتين : التقبيل ، وزنا اليدين : البطش ، وزنا الرجلين : المشي ، ويصدّق ذلك الفرج أو يكذبه ، فإن تقدم بفرجه كان زانيا ، وإلا فهو اللمم. وأخرج مسدد وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنه سئل عن قوله : (إِلَّا اللَّمَمَ) قال : هي النظرة والغمزة والقبلة والمباشرة ، فإذا مسّ الختان الختان فقد وجب الغسل ، وهو الزنا. وأخرج سعيد بن منصور ، والترمذي وصحّحه ، والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس قال في قوله : (إِلَّا اللَّمَمَ) هو الرجل يلمّ بالفاحشة ثم يتوب منها. قال : وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم :
إن تغفر اللهمّ تغفر جمّا |
|
وأيّ عبد لك لا ألمّا؟ |
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : (إِلَّا اللَّمَمَ) يقول : إلا ما قد سلف. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن أبي هريرة في قوله : (إِلَّا اللَّمَمَ) قال : اللمة : من الزنا ثم يتوب ولا يعود ، واللمة : من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود ، فذلك الإلمام. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس قال : اللمم كل شيء بين الحدّين حدّ الدنيا وحدّ الآخرة يكفّره الصلاة ، وهو دون كلّ موجب ، فأما حدّ الدنيا فكلّ حدّ فرض الله عقوبته في الدنيا ؛ وأما حدّ الآخرة فكلّ شيء
__________________
(١). المائدة : ٨.
(٢). من تفسير القرطبي (١٧ / ١١٥)