ولا يلتفتون إلى سواه من أمر الدين. قال الفرّاء : أي : ذلك قدر عقولهم ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة ، وقيل : الإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى جعلهم للملائكة بنات الله ، وتسميتهم لهم تسمية الأنثى ، والأوّل أولى. والمراد بالعلم هنا مطلق الإدراك الّذي يندرج تحته الظنّ الفاسد ، والجملة مستأنفة لتقرير جهلهم واتباعهم مجرّد الظن. وقيل : معترضة بين المعلّل والعلّة ، وهي قوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) فإن هذا تعليل للأمر بالإعراض ، والمعنى : أنه سبحانه أعلم بمن حاد عن الحق ، وأعرض عنه ، ولم يهتد إليه ، وأعلم بمن اهتدى فقبل الحق وأقبل إليه وعمل به ، فهو مجاز كلّ عامل بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ. وفيه تسلية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم وإرشاد له بأنه لا يتعب نفسه في دعوة من أصرّ على الضلالة وسبقت له الشقاوة ، فإن الله قد علم حال هذا الفريق الضال كما علم حال الفريق الراشد. ثم أخبر سبحانه عن سعة قدرته وعظيم ملكه ، فقال : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي : هو المالك لذلك والمتصرّف فيه لا يشاركه فيه أحد ، واللام في (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) متعلّقة بما دلّ عليه الكلام ، كأنه قال : هو مالك ذلك ، يضل من يشاء ، ويهدي من يشاء ؛ ليجزي المسيء بإساءته والمحسن بإحسانه. وقيل : إن قوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) معترضة ، والمعنى : إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ، وهو أعلم بمن اهتدى ؛ ليجزي. وقيل : هي لام العاقبة ، أي : وعاقبة أمر الخلق الذين فيهم المحسن والمسيء أن يجزي الله كلا منهما بعمله. وقال مكي : إن اللام متعلقة بقوله : (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ) وهو بعيد من حيث اللفظ ومن حيث المعنى. قرأ الجمهور (لِيَجْزِيَ) بالتحتية. وقرأ زيد ابن عليّ بالنون ، ومعنى (بِالْحُسْنَى) أي : بالمثوبة الحسنى وهي الجنة ، أو بسبب أعمالهم الحسنى ، ثم وصف هؤلاء المحسنين فقال : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) فهذا الموصول في محل نصب على أنه نعت للموصول الأول في قوله : (الَّذِينَ أَحْسَنُوا) وقيل بدل منه ، وقيل بيان له ، وقيل منصوب على المدح بإضمار أعني ، أو في رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين يجتنبون كبائر الإثم. قرأ الجمهور : (كَبائِرَ) على الجمع. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثّاب كبير على الإفراد ، والكبائر : كل ذنب توعّد الله عليه بالنار ، أو ذمّ فاعله ذمّا شديدا ، ولأهل العلم في تحقيق الكبائر كلام طويل. وكما اختلفوا في تحقيق معناها وماهيتها اختلفوا في عددها ، والفواحش : جمع فاحشة ، وهي ما فحش من كبائر الذنوب كالزنا ونحوه. وقال مقاتل : كبائر الإثم كل ذنب ختم بالنار ، والفواحش : كلّ ذنب فيه الحد. وقيل : الكبائر : الشرك ، والفواحش : الزنا ، وقد قدّمنا في سورة النساء ما هو أبسط من هذا وأكثر فائدة ، والاستثناء بقوله : (إِلَّا اللَّمَمَ) منقطع (١). وأصل اللمم في اللغة ما قلّ وصغر ، منه : ألمّ بالمكان قلّ لبثه فيه ، وألمّ بالطعام قلّ أكله منه ، قال المبرد : أصل اللمم أن تلمّ بالشيء من غير أن تركبه. يقال : ألم بكذا إذا قاربه ولم يخالطه. قال الأزهري : العرب تستعمل الإلمام في معنى الدنوّ والقرب ، ومنه قول جرير :
__________________
(١). في تفسير القرطبي (١٧ / ١٠٨) : متصل.