وأدرك وذلك لا يكون الا بعد الإخراج. وقدم السمع على البصر ، لأنه طريق تلقى الوحى ، أو لأن إدراكه أقدم ، من إدراك البصر. وإفراده ـ أى السمع ـ باعتبار كونه مصدرا في الأصل ... (١).
وقال الإمام ابن كثير : «وهذه القوى والحواس تحصل للإنسان على التدريج قليلا قليلا حتى يبلغ أشده. وإنما جعل ـ تعالى ـ هذه الحواس في الإنسان ليتمكن بها من عبادة ربه ، فيستعين بكل جارحة وعضو وقوة على طاعة مولاه كما جاء في صحيح البخاري عن أبى هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : يقول تعالى ـ «من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب. وما تقرب إلى عبدى بشيء أفضل مما افترضت عليه ، ولا يزال عبدى يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشى بها ، ولئن سألنى لأعطينه ، ولئن دعاني لأجيبنه ولئن استعاذ بي لأعيذنه ، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددى في قبض نفس عبدى المؤمن ، يكره الموت ، وأكره مساءته ، ولا بد له منه».
فمعنى الحديث أن العبد إذا أخلص الطاعة ، صارت أفعاله كلها لله ، فلا يسمع إلا لله ، ولا يبصر إلا لله أى : لما شرعه الله له .. (٢).
وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٣).
ثم حض ـ سبحانه ـ عباده على التفكر في مظاهر قدرته فقال ـ تعالى ـ : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ ..).
والطير : جمع طائر كركب وراكب. و «مسخرات» من التسخير بمعنى التذليل والانقياد أى : ألم ينظر هؤلاء الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى في العبادة ، إلى الطيور وهن يسبحن في الهواء المتباعد بين الأرض والسماء ، ما يمسكهن في حال قبضهن وبسطهن لأجنحتهن إلا الله ـ تعالى ـ ، بقدرته الباهرة ، وبنواميسه التي أودعها في فطرة الطير.
إنهم لو نظروا نظر تأمل وتعقل ، لعلموا أن المسخر لهن هو الله الذي لا معبود بحق سواه
__________________
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٨٩.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٧٩.
(٣) سورة الملك الآية ٢٤.