فهذه الأشربة قد أخرجها الله ـ تعالى ـ من أجساد مخالفة لها في شكلها ، وقد ساقها ـ سبحانه ـ في آيات جمع بينها التناسق الباهر في عرض هذه النعم ، مما يدل على أن هذا القرآن من عند الله ، (.. وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (١).
وبعد هذا الحديث المتنوع عن عجائب خلق الله ـ تعالى ـ في الأنعام والأشجار والنحل .. ساقت السورة الكريمة ألوانا أخرى من مظاهر قدرته ـ تعالى ـ في خلق الإنسان ، وفي التفاضل في الأرزاق ، ومن نعمه على عباده في إيجاد الأزواج والبنين والحفدة .. فقال ـ تعالى ـ :
(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) (٧٢)
قال الإمام الرازي ـ رحمهالله ـ : لما ذكر ـ سبحانه ـ بعض عجائب أحوال الحيوانات ، ذكر بعده بعض عجائب أحوال الناس ، ومنها ما هو مذكور في هذه الآية : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) ـ وهو إشارة إلى مراتب عمر الإنسان. والعقلاء ضبطوها في أربع مراتب : أولها : سن النشوء والنماء ، وثانيها : سن الوقوف وهو سن الشباب ، من ثلاث وثلاثين سنة إلى أربعين سنة ـ ، وثالثها : سن الانحطاط القليل وهو سن الكهولة ـ وهو من الأربعين إلى الستين ـ ورابعها : سن الانحطاط الكبير ـ وهو سن الشيخوخة ـ وهو من الستين إلى نهاية العمر ـ» (٢).
__________________
(١) سورة النساء الآية ٨٢.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ٣٣٢.