(وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً) أول النّهار (عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) لا يفارقهم حتى يسلمهم إلى النّار ، وفى وصفه بالاستقرار إيماء إلى أنّ عذاب الطمس ينتهى إليه ، (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) ، حكاية لما قيل لهم حينئذ من جهته ـ تعالى ـ تشديدا للعتاب.
(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ، قال النّسفى : وفائدة تكرير هذه الآية ؛ أن يجدّدوا عند سماع كلّ نبأ من أنباء الأولين ادّكارا واتعاظا إذا سمعوا الحث على ذلك ، وأن يستأنفوا تنبّها واستيقاظا إذا سمعوا الحثّ على ذلك ، وهكذا حكم التكرير فى قوله ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١) عند كلّ نعمة عدّها ، وقوله : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٢) عند كلّ آية أوردها ، وكذا تكرير القصص فى أنفسها ؛ لتكون تلك العبر حاضرة للقلوب ، مصوّرة فى الأذهان ، [مذكّرة] (٣) غير منسيّة فى كلّ أوان. ه.
الإشارة : قال القشيري : يشير إلى أنّ كلّ من غلبته الشهوة البهيمية ـ شهوه الجماع ـ يجب عليه أن يقهر تلك الصفة ، ويكسرها بأحجار ذكر «لا إله إلا الله» ، ويعالج تلك الصفة بضدها ، وهو العفة. ه. فالإشارة بقوم لوط إلى الشهوات الجسمانية ، فقد كذّبت الرّوح حين دعتها إلى مقام الصفا ، ودعتها النّفس بالميل إليها إلى الحضيض الأسفل ، فإذا أراد الله نصر عبده أرسل عليها حاصب الواردات والمجاهدات ، فمحت أوصافها الذميمة ، ونقلتها إلى مقام الرّوحانية ، قال تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ) يعنى الأوصاف المحمودة ، نجيناهم فى آخر ليل القطيعة ، أو : الروح وأوصافها الحميدة ، نجيناها فى وقت النّفحات من التدنس بأوصاف النّفس الأمّارة ، نعمة من عندنا ، لا بمجاهدة ولا سبب ، كذلك نجزى من شكر نعمة العناية ، وشكر من جاءت على يديه الهداية ، وهم الوسائط من شيوخ التربية. ولقد أنذر الرّوح النّفس وهواها وجنودها بطشتنا : قهرنا ، بوارد قهرى ، من خوف مزعج ، أو شوق مقلق ، حتى يخرجها من وطنها ، فتماروا بالنذر ، وقالوا : لم يبق من يخرجنا من وطننا ، فقد انقطعت التربية ، ولا يمكن إخراجنا بغيرها ، ولقد راودوه عن ضيفه ، راودوا الرّوح عن نور معرفته ويقينه ، بالميل إلى شهوات النّفس ؛ فطمسنا أعينهم ، فلم يتمكنوا من رد الرّوح إذا سبقت لها العناية ، فيقال للنفس وجنودها : ذوقوا عذابى ونذرى بالبقاء مع الخواطر والهموم ، ولقد صبّحهم أول نهار المعرفة حين أشرقت شموس العيان عذاب مستقر ، وهو محق أوصاف النّفس ، والغيبة عنها أبدا سرمدا. والله تعالى أعلم.
__________________
(١) كررت هذه الآية فى سورة الرّحمن إحدى وثلاثين مرة ، المرة الأولى جاءت فى الآية ١٣.
(٢) الآية ١٥ من سورة المرسلات.
(٣) فى النّسفى [مذكورة].