من مات عن رؤية نفسه ؛ قامت قيامته بلقاء ربه وشهوده. وقوله تعالى : (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) أي : قمر الإيمان ؛ فإنه إذا أشرقت عليه شمس العيان ، لم يبق لنوره أثر ، ليس الخبر كالعيان ، وإن يروا ـ أي : أهل الغفلة والحجاب ـ آية تدل على طلوع شمس العيان على العبد المخصوص ، يعرضوا منكرين ، (وَيَقُولُوا) : هذا (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ..) الآية ، وكلّ أمر قدّره الحق ـ تعالى فى الأزل ، من أوقات الفتح أو غيره ، مستقر ، يستقر ويقع فى وقته ، لا يتقدم ولا يتأخر ، فلا ينبغى للمريد أن يستعجل الفتح قبل إبانه ، فربما عوقب بحرمانه ، ولقد جاءهم من الأخبار عن منكرى أهل الخصوصية ، وما لحق أهل الانتقاد من الهلاك أو الطرد والبعد ما فيه مزدجر ، كما فعل بابن البراء وأمثاله ، حكمة من الله بالغة ، وسنة ماضية ، يقول : «من آذى لى وليّا فقد آذن بالحرب» فما تغن النّذر إذا سبق الخذلان ، فتولّ أيها السالك عنهم ، وعن خوضهم ، واشتغل بالله عنهم ؛ فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ، واذكر الموت وما بعده ، فإنه حينئذ يظهر عز الأولياء ، وذل الأغبياء ، يقولون : هذا يوم عسر على من طغى وتجبر.
ثم سرد قصص الأنبياء ، تسلية لرسوله صلىاللهعليهوسلم ـ وتفسيرا لقوله : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ) فقال :
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧))
يقول الحق جل جلاله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) أي : قبل أهل مكة (قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) نوحا عليهالسلام. ومعنى تكرار التكذيب : أنهم كذّبوا تكذيبا عقب تكذيب ، كلما خلا منهم قرن مكذّب ، جاء عقبه قرن آخر مكذّب مثله ، وقيل : كذبت قوم نوح الرّسل ، (فكذّبوا عبدنا) ؛ لأنه من جملتهم. وفى ذكره عليهالسلام بعنوان العبودية مع إضافته لنون العظمة ؛ تفخيم له عليهالسلام ورفع لمحله ، وزيادة تشنيع لمكذّبيه ، (وَقالُوا مَجْنُونٌ) أي : لم يقتصروا على مجرد التكذيب ، بل نسبوه للجنون ، (وَازْدُجِرَ) أي : زجر عن أداء الرّسالة ؛ بالشتم ، وهدّد بالقتل ، أو : هو من جملة قولهم ، أي : قالوا : هو مجنون وقد ازدجرته الجن ، أي : تخبّطته وذهبت بلبه.