الذين هم فى خوض الدنيا وشهواتها وزخارفها يلعبون ، لا حديث لهم إلا عليها ، ولا فكرة إلا فيها. يوم يدعّون إلى النار القطيعة والبعد ، دعّا ، لا خلاص منها ، ولا رجوع ، فتناديهم عزة الحق تعالى : هذه النّار التي كنتم بها تكذّبون ، وتقولون : لا يقطعنا عن الله شىء من الدنيا ، وترمون أهل التربية بالسحر ، أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون حقائق هذه المعاني؟ أصلوا نار القطيعة ، فاصبروا على غم الحجاب ، أو لا تصبروا ، إذ لم تصبروا على مخالفة النفوس حين ينفعكم الصبر ، سواء عليكم أجزعتم أم صبرتم ، إنما تجزون ما كنتم تعملون فى الدنيا ، من إيثار الهوى والحظوظ ، على مجاهدة النّفوس.
ثم ذكر أضدادهم ، فقال :
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣))
يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) الشرك والمعاصي (فِي جَنَّاتٍ) عظيمة (وَنَعِيمٍ) أىّ نعيم ، فالتنكير للتفخيم ، أو : للتنوع ، أي : جنات مخصوصة بهم ، ونعيم مخصوص ، (فاكِهِينَ) ؛ ناعمين متلذذين (بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) ؛ بما أتحفهم ، (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) ، عطف على «آتاهم» على أن «ما» مصدرية ، أي : فاكهين بإتيانهم وبوقايتهم ، أو : على «فى جنات النّعيم» أي : استقروا فى جنات ووقاهم ، أو : حال ، إما من المستكن فى الخبر ، أو : من فاعل «آتى» ، أو : مفعوله بإضمار «قد». وإظهار الرّب فى موضع الإضمار مضافا إلى ضمير (هم) لتشريفهم ، ويقال لهم : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) ما شئتم (هَنِيئاً) أي : أكلا وشربا هنيئا ، أو : طعاما وشرابا هنيئا ، لا تنغيص فيه بخوف انقطاعه أو فواته ، (بِما كُنْتُمْ) أي : عوض ما كنتم (تَعْمَلُونَ) فى الدنيا من الخير ، أو جزاءه.
(مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) ؛ مصطفة ، وهو حال من الضمير فى «كلوا واشربوا» ، (وَزَوَّجْناهُمْ) أي : قرنّاهم (بِحُورٍ) ؛ جمع حوراء (عِينٍ) : جمع عيناء ، أي : عظام الأعين حسانها. وفى الكشّاف : وإنما دخلت