الموت والحياة. قال الحسن : كل شىء زوج ، والله فرد لا مثل له. (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي : جعلنا ذلك كله ، من بناء السماء ، وفرش الأرض ، وخلق الأزواج ، لتذكّروا ، وتعرفوا أنه خالق الكلّ ورازقهم ، وأنه المستحق للعبادة ، وأنه قادر على إعادة الجميع ، وتعملوا بمقتضاه. وبالله التوفيق.
الإشارة : وفى موسى القلب إذ أرسلناه إلى فرعون النّفس ، بسلطان ، أي : بتسلط وحجة ظاهرة ، لتتأدب وتتهذب ، فتولى فرعون النّفس بركنه ، وقوة هواه ، وقال لموسى القلب : ساحر أو مجنون ، حيث يأمرنى بالخضوع والذل ، الذي يفرّ منه كلّ عاقل ، طبعا ، فأخذناه وجنوده من الهوى والجهل والغفلة ، فنبذناهم فى اليمّ فى بحر الوحدة ، فلما غرقت فى بحر العظمة ، ذابت وتلاشت ، ولم يبق لها ولا لجنودها أثر ، وهو ـ أي : فرعون النّفس ـ مليم : فعل ما يلام عليه من الميل إلى ما سوى الله قبل إلقائه فى اليم.
وفى عاد ، وهى جند النّفس وأوصاف البشرية ، من التكبر ، والحسد ، والحرص ، وغير ذلك ، إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ؛ ريح المجاهدة والمكابدة. أو : ريح الواردات القهرية ، ما تذر من شىء من الأوصاف المذمومة إلا أهلكته ، وجعلته كالرميم. وفى ثمود ، وهم أهل الغفلة ، إذ قيل لهم : تمتعوا بدنياكم إلى حين زمان قليل ؛ مدة عمركم القصير ، فعتوا : تكبروا عن أمر ربهم ، وهو الزهد فى الدنيا ، والخضوع لمن يدعوهم إلى الله ، فأخذتهم صاعقة الموت على الغفلة والبطالة ، وهم لا ينظرون إلى ارتحالهم عما جمعوا ، فما استطاعوا من قيام ، حتى يدفعوا ما نزل بهم ، ولو افتدوا بالدنيا وما فيها ، وما كانوا ممتنعين من قهرية الموت ، فرحلوا بغير زاد ولا استعداد. وقوم نوح من قبل ، وهو من سلف من الأمم الغافلة ، إنهم كانوا قوما فاسقين خارجين عن حضرتنا.
والسماء ، أي : سماء الأرواح ، بنيناها ورفعناها بأيد ، ورفعنا إليها من أحببنا من عبادنا ، وإنا لموسعون على المتوجهين إلينا فى المعارف والأنوار ، والعلوم والأسرار ، والأرض ؛ وأرض النّفوس ، فرشناها للعبودية ، والقيام بآداب الربوبية ، فنعم الماهدون ، مهدنا الطريق لذوى التحقيق ، ومن كلّ شىء من تجليات الحق ، خلقنا ، أي : أظهرنا زوجين ، الحس والمعنى ، الحكمة والقدرة ، الشريعة والحقيقة ، الفرق والجمع ، الملك والملكوت ، الأشباح والأرواح ، الذات والصفات ، فتجلى الحق جل جلاله بين هذين الضدين ؛ ليبقى الكنز مدفونا ، والسر مصونا ، ولو تجلى بضد واحد لبطلت الحكمة ، وتعطلت أسرار الرّبوبية ، فمن لم يعرف الله تعالى فى هذين الضدين ، لم يعرفه أبدا ، ومن لم يفرق بين هذين الضدين ، فى هذه الأشياء المذكورة ، لم تنسج فكرته ، فصفاء الغزول هو التمييز بين هذين الضدين ، ذوقا ، وبينهما تنسج الفكرة ، وبالغيبة عن الأول فى شهود الثاني يحصل القرب إلى الله تعالى ، كما أبان ذلك فى قوله :