تكون «ما» نافية على معنى : أنهم لا يهجعون من الليل قليلا ويحيونه كله. ه. أو كانوا ناسا قليلا ما يهجعون من الله ؛ لأن «ما» النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، ولأن المحسنين وهم السابقون كانوا كثيرا فى الصدر الأول ، وموجودون فى كلّ زمان ومكان ، فلا معنى لقلتهم ، خلافا لوقف الهبطى ، وأيضا : فمدحهم بإحياء الليل كله مخالف لحالته صلىاللهعليهوسلم ، وما كان يأمر به.
(وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ، وصفهم بأنهم يحيون جل الليل متهجدين ، فإذا أسحروا أخذوا فى الاستغفار من رؤية أعمالهم. والسحر : السدس الأخير من الليل ، وفى بناء الفعل على الضمير إشعار بأنهم الأحقاء بأن يوصفوا بالاستغفار ، كأنهم المختصون به ، لاستدامتهم له ، وإطنابهم فيه.
(وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌ) أي : نصيب وافر ، يوجبونه على أنفسهم ، تقربا إلى الله تعالى ، وإشفاقا على النّاس ، (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) أي : لمن يصرح بالسؤال لحاجة ، وللمتعفف الذي يتعرّض ولا يسأل حياء وتعففا ، يحسبه الناس غنيا فيحرم نفسه من الصدقة. وقد تكلم فى نوادر الأصول (١) على من سأل بالله ، أي : قال : أعطنى لوجه الله ، هل يجب إعطاؤه أم لا؟ ، وفى الحديث : «من سألكم بالله فأعطوه» (٢). قال : وهو مقيد بما إذا سأل بحق ، أي : لحاجة ، وأما إذا سأل بباطل ـ أي : لغير حاجة ـ فإنما سأل بالشيطان ؛ لأن وجه الله حق. ثم ذكر كلام علىّ شاهدا ، (٣) ثم حديث معاذ : «من سألكم بالله فأعطوه ، فإن شئتم فدعوه» ، قال معاذ : وذلك أن تعرف أنه غير مستحق ، وإذا عرفتم أنه مستحق ، وسأل فلم تعطوه فأنتم ظلمة. وألحق بغير المستحق من اشتبه حاله ؛ لتعليق الظلم على معرفة الاستحقاق خاصة.
وقال النّووى فى الأذكار : يكره منع من سأل بالله ، وتشفع به ؛ لحديث : «من سأل بالله فأعطوه» قال : ويكره أن يسأل بوجه الله عير الجنة. ه. وفى حديث المنذرى : «ملعون من سأل بوجه الله ، وملعون من سأل بوجه الله ، ثم منع سائله ما لم يسأل هجرا» (٤). وقال فى كتابه «الأخبار» على قوله عليه الصلاة والسّلام : «من سألكم بالله فأعطوه» إجلالا لله تعالى ، وتعظيما ، وإيجابا لحقه. ثم قال : إذ ليس يجب إعطاء السائل إذا كان فى معصية أو
__________________
(١) الأصل التاسع عشر والمائتان (فى الاستعاذة بالله تعالى ، ٢ / ١٨٧ ـ ١٨٨).
(٢) جزء من حديث أخرجه أحمد فى المسند (٢ / ٦٨) وأبو داود فى (الزكاة ، باب عطية من سأل بالله ، ح ١٦٧٢) والحاكم فى المستدرك (١ / ٤١٢) «وصحّحه وأقره الذهبي» من حديث ابن عمر رضي الله عنه وكذا أخرجه الطبراني فى الكبير (١٢ / ٣٩٧) والبيهقي (٤ / ١٩٩). وفى أوله : «من استعاذ بالله فأعيذوه ...» الحديث.
(٣) قال الحكيم الترمذي : «سأل رجل علىّ بن أبى طالب رضي الله عنه شيئا ، فلم يعطه فقال : أسألك بوجه الله تعالى ، فقال له : كذبت ، ليس بوجه الله سألتى ، إنما وجه الله الحق ، ولكن سألت بوجهك الخلق».
(٤) ذكره المنذرى فى الترغيب والترهيب (ح ١٢٤٦) وعزاه للطبرانى ، من حديث أبى موسى الأشعري. قال الهيثمي فى مجمع الزوائد (٣ / ١٠٣) : «رواه الطبراني فى الكبير ، وإسناده حسن ، على ضعف فى بعضه مع توثيق».
وقوله «هجرا» بضم الهاء وسكون الجيم : أي : ما لم يسأل أمرا قبيحا لا يليق ، ويحتمل أنه أراد : ما لم يسأل سؤالا قبيحا بكلام قبيح.