ودخلت الفاء للتسبب عن قوله : (هم أشد منهم بطشا) أي : شدة بطشهم ، أي : قدرتهم على التنقيب فى البلاد ، ويجوز أن يعود الضمير إلى أهل مكة ، أي : ساروا فى أسفارهم ومسايرهم فى بلد القرون ، فهل رأوا لهم محيصا حتى يؤملوا مثله أنفسهم؟ ويؤيده قراءة من قرأ (فنقّبوا) على صيغة الأمر.
(إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : فيما ذكر من قصصهم ، أو : فيما ذكر فى السورة (لَذِكْرى) ؛ لتذكرة وعظة (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) سليم واع يدرك كنه ما يشاهده من الأمور ، ويتفكر فيها ، ليعلم أن مدار دمارهم هو الكفر ، فيرتدع عنه بمجرد مشاهدة الآثار من غير تذكير ، (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) أي : أصغى بقلبه إلى ما يتلى عليه من الوحى النّاطق بما جرى عليهم ، فإن من فعله يقف على كنه الأمر ، فينزجر عما يؤدى إليه من الكفر والمعاصي ، يقال : ألق إلىّ سمعك ، أي : استمع ، ف «أو» لمنع الخلو ، لا لمنع الجمع ، فإن إلقاء السمع لا يجدى بدون سلامة القلب عما ذكر من الصفات ، للإيذان بأن من عرى قلبه عنهما كمن لا قلب له أصلا : وقوله تعالى : (وَهُوَ شَهِيدٌ) : حال ، أي : والحال أنه حاضر القلب لا يغفل أو : شاهد على ما يقرأ من كتاب الله.
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من أصناف المخلوقات ، وهذا أيضا احتجاج على القدرة على البعث بما هو أكبر ، كقوله : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) (١) وقوله تعالى : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) إنما خلقها فى تلك المدة تعليما لخلقه التؤدة ، وإلا فهو قادر على أن يخلقها فى لمحة ، (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (٢) ، ويحتمل أن هذا فى عالم الأمر ، وأما عالم الخلق فاقتضت الحكمة خلقه بالتدريج ، وله الخلق والأمر ، ثم قال تعالى : (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) ؛ من إعياء ولا تعب فى الجملة ، وهذا رد على جهلة اليهود ، أنه تعالى بدأ العالم يوم الأحد ، وفرغ منه يوم الجمعة ، واستراح يوم السبت ، واستلقى على العرش (٣) ، تعالى عما يقولون علوا كبيرا.
الإشارة : كثيرا ما أهلك الله من النّفوس المتمردة فى القرون الماضية ، زجرا لمن يأتى بعدهم ، ففى ذلك ذكرى لمن كان له قلب سليم من تعلقات الكونين. قال القشيري : فالقلوب أربعة ؛ قلب فاسد ؛ وهو الكافر ، وقلب مقفول ، وهو قلب المنافق ، وقلب مطمئن ، وهو قلب المؤمن ، وقلب سليم ، وهو قلب المحبين والمحبوبين ، الذين هو مرآة صفات جمال الله وجلاله ، كما قال تعالى : «لا يسعنى أرضى ولا سمائى ، ووسعني قلب عبدى المؤمن» (٤). ه.
__________________
(١) الآية ٥٧ من سورة غافر.
(٢) الآية ٥٠ من سورة القمر.
(٣) نزول الآية ردّا على اليهود ، أخرجه الطبري (٢٦ / ١٧٨) والواحدي فى الأسباب (ص ٤١٣).
(٤) سبق.