أهل حمير على دين الحبرين ، فمن هنالك كان أصل اليهودية باليمن. قال الرياشي : كان أبو كرب أسعد الحميرى من التبابعة ، آمن بالنبي صلىاللهعليهوسلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة. وتقدم شعره فى الدخان (١).
(كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) فيما أرسلوا به من الشرائع ، التي من جملتها : البعث الذي أجمعوا عليه قاطبة ، أي : كل قوم من الأقوام المذكورين كذّبوا رسولهم (فَحَقَّ وَعِيدِ) أي : فوجب وحلّ عليهم وعيدى ، وهى كلمة العذاب. وفيه تسلية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم وتهديد لهم.
(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) ، استئناف مقرر لصحة البعث ، الذي حكيت أحوال المنكرين له من الأمم المهلكة. والعىّ بالأمر : العجز عنه ، يقال : عيى بالأمر : إذا لم يهتد لوجه عمله. والهمزة للإنكار ، والفاء : عطف على مقدر ، ينبئ عنه المقام ، كأنه قيل : أقصدنا الخلق الأول فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا عن الإعادة؟ (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي : بل هم فى لبس وخلط وشبهة ، قد لبس عليهم الشيطان وحيّرهم ، حيث سوّل لهم أن إحياء الموتى خارج عن العادة ، فتركوا لذلك الاستدلال الصحيح ، وهو : أن من قدر على الإنشاء كان على الإعادة أقدر.
وهو معطوف على مقدر يدل عليه ما قبله ، كأنه قيل : هم غير منكرين لقدرتنا على الخلق الأول ، بل هم فى خلط وشبهة من خلق مستأنف جديد. وتنكير «خلق» لتفخيم شأنه ، والإشعار بخروجه عن حدود العادة ، والإيذان بأنه حقيق بأن يبحث عنه ويهتم بمعرفته.
الإشارة : قال القشيري : الإشارة فى الآية إلى أنّ الغالب فى كلّ زمان غلبة الهوى والطبيعة الحيوانية واستيلاء الحس على النّاس ، نفوسهم متمردة ، بعيدة من الحق ، قريبة من الباطل ، كلما جاء إليهم رسول كذّبوه ، وعلى ما جاء به قاتلوه ، فحقّ عليهم عذاب ربهم ، لمّا كفروا نعمه ، فما أعياه إهلاكهم. ه. قلت : وكذلك جرى فى كل زمان ، كل من أمر النّاس بإخراجهم عن عوائدهم ، ومخالفة أهوائهم ، رفضوه وعادوه ، فقلّ بسبب ذلك المخلصون ، وكثر المخلطون ، فإذا قالوا : لا يمكن الإخراج عن العوائد ، قلنا : القدرة صالحة ، قال تعالى : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) ، وهو إحياء القلب الميت ، فيجدّد إيمانه ، وتحيا روحه حياة سرمدية. وبالله التوفيق.
ثم إنّ عادته تعالى فى التنزيل : أنه مهما ذكر دلائل قدرته ذكر بإثره شأن علمه ، أو بالعكس ، إشارة إلى إسناد كل المقدورات إليه تعالى ، ردا على الطبائعيين ؛ لأنّ الفاعل بالطبيعة لا يتوقف على العلم ، ولذلك قال تعالى :
__________________
(١) راجع تفسير الآيات : ٣٤ ـ ٣٩.