البلد فذكّر الوصف. (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) من القبور ، فكما حييت هذه البلدة الميتة كذلك تخرجون أحياء بعد موتكم ، لأن إحياء الموات كإحياء الأموات. وقدّم الخبر للقصد إلى القصر. والإشارة فى «كذلك» إلى الحياة المستفادة من الإحياء ، وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد رتبها ، أي : مثل ذلك الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور ، لا شىء مخالف لها. وفى التعبير عن إخراج النّبات من الأرض بالإحياء ، وعن حياة الأموات بالخروج ؛ تفخيم لشأن النّبات ، وتهوين لأمر البعث ، وتحقيق للمماثلة ؛ لتوضيح منهاج القياس ، وتقريبه إلى أفهام النّاس.
الإشارة : (ق) أيها القريب المقرب ، وحق القرآن المجيد ، إنك لحبيب مجيد ، رسول من عند الملك المجيد ، وإن كنت بشرا فنسبتك من البشر كياقوتة بين الحجر ، فالبشرية لا تنافى الخصوصية ، بل تجامعها منّة منه تعالى وفضلا ، على من شاء من عباده ، فاستبعاد الكفار مجامعة الخصوصية للبشرية كاستبعاد إبليس تفضيل آدم لكونه بشرا من طين ، وذلك قياس فاسد ، مضاد للنص ، وكما استبعدت الكفرة وجود خصوصية النّبوة فى البشر ، استبعدت الجهلة خصوصية التربية بالاصطلاح فى البشر ، بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم ، يدل على الله ، ويبين الطريق إليه ، قالوا : هذا شىء عجيب ، أئذا متنا ؛ بأن ماتت قلوبنا بالغفلة ، وكنا ترابا أرضيين بشريين ، تحيى أرواحنا بمعرفة العيان؟! ذلك رجع بعيد.
قال تعالى : (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم) أرض النّفوس من أرواحهم ، وتهوى بها إلى الحضيض الأسفل ، فيجذبها إلى أعلى عليين ، إن سبقت عنايتنا ، وعندنا كتاب حفيظ يحفظ المراتب والمقامات ، فيلتحق كل واحد بما سبق له. بل كذّبوا بالحق ، وهو الداعي إلى الحق ، لمّا جاءهم فى كلّ زمان ، فهم فى أمر مريج ، تارة يقرون وجود التربية بالهمة والحال ، وينكرون الاصطلاح ، وتارة يقرون بالجميع ، وينكرون تعيينه ، أفلم ينظروا إلى سماء القلوب والأرواح ، كيف بنيناها ، أي : رفعنا قدرها بالعلوم والمعارف ، وزيّناها بأنوار الإيمان والإحسان ، وليس فيها خلل ، وأرض النّفوس مددناها : جعلناها بساطا للعبودية ، وألقينا فيها رواسى أرسيناها بالعقول الصافية الثابتة ، لئلا تضطرب عند زلزلات الامتحان ، وأنبتنا فيها من كلّ صنف بهيج ، من فنون علم الحكمة والتشريع ، تبصرة وتذكيرا لكلّ عبد منيب ، راجع إلى مولاه ، قاصد لمعرفته.
قال القشيري : تبصرة وذكرى لمن رجع إلينا فى شهود أفعالنا الى رؤية صفاتنا ، ومن شهود صفاتنا إلى شهود ذاتنا. ه. ونزّلنا من السماء ماء العلوم اللدنية ، كثير البركة والنّفع ، فأنبتنا به جنات المعارف وحب الحصيد ، وهو حب المحبة ؛ لأنه يحصد من القلب محبة ما سوى الله. والنّخل باسقات ، أي : شجرة المعرفة الكاملة لها طلع نضيد :