وفى هذه العبارة ضرب من المجاز الذي يسمى تمثيلا ، وفيه فائدة جليلة ، وهى : تصوير الهجنة والشناعة فيما نهوا عنه من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة. ويجوز أن يجرى مجرى قولك : سرّنى زيد وحسن ماله ، فكذلك هنا المعنى : لا تقدّموا بين يدى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم. وفائدة هذا الأسلوب : الدلالة على قوة الاختصاص ، ولمّا كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الله بالمكان الذي لا يخفى ؛ سلك به هذا المسلك ، وفى هذا تمهيد لما نقم منهم من رفع أصواتهم فوق صوته ؛ لأن من فضّله الله بهذه الأثرة ، واختصه بهذا الاختصاص ، كان أدنى ما يجب له من التهيّب والإجلال : أن لا يرفع صوت بين يديه ، ولا يقطع أمر دونه ، فالتقدم عليه تقدم على الله ؛ لأنه لا ينطق عن الهوى ، فينبغى الاقتداء بالملائكة ؛ حيث قيل فيهم : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ...) إلخ (١).
قال عبد الله بن الزبير : قدم وفد من تميم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم. فقال أبو بكر : لو أمّرت عليهم القعقاع بن معبد ، وقال عمر : يا رسول الله ؛ بل أمّر الأقرع بن حابس ؛ فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافى ، وقال عمر : ما أردت خلافك ، وارتفعت أصواتهما ، فنزلت (٢). فعلى هذا يكون المعنى : لا تقدّموا ولاة ، والعموم أحسن كما تقدم. وعبارة البخاري : «وقال مجاهد : (لا تقدموا) ؛ لا تفتاتوا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى يقضى الله ـ عزوجل ـ على لسانه» (٣). وعن الحسن : أن ناسا ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة ، فنزلت ، فأمرهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يعيدوا (٤) ، وعن عائشة : أنها نزلت فى النّهى عن صوم يوم الشك (٥).
(وَاتَّقُوا اللهَ) فى كلّ ما تأتون وتذرون من الأحوال والأفعال ، التي من جملتها ما نحن فيه ، (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بأفعالكم ، فمن حقّه أن يتّقى ويراقب.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) ، شروع فى النّهى عن التجاوز فى كيفية القول عند النّبى صلىاللهعليهوسلم ، بعد النّهى عن التجاوز فى نفس القول والفعل ، وإعادة النّداء مع قرب العهد ؛ للمبالغة فى الإيقاظ والتنبيه ، والإشعار باستقلال كلّ من الكلامين باستدعاء الاعتناء بشأنه ؛ أي : لا تبلغوا بأصواتكم وراء حدّ يبلغه
__________________
(١) من الآية ٢٧ من سورة الأنبياء.
(٢) أخرجه البخاري فى (التفسير ، باب (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ح ٤٨٤٧).
(٣) ذكره البخاري فى (التفسير ، سورة الحجرات). وأخرجه الطبري (٢٦ / ١١٦).
(٤) أخرجه الطبري (٢٦ / ١١٧). وعزاه السيوطي فى الدر (٦ / ٨٦) لابن أبى الدنيا فى الأضاحى.
(٥) عزاه السيوطي فى الدر (٦ / ٨٦) لابن النّجار فى تاريخه ، والطبراني فى الأوسط ، وابن مردويه.
هذا ، وما ذكره المفسر عن السيدة عائشة والحسن إنما هو داخل فى عموم الآية ، لا أنه سبب النّزول ؛ لأن ما ذكر عن السيدة عائشة والحسن مخالف للرواية الصحيحة الواردة فى سبب النّزول ، والتي أخرجها البخاري.