(وَلَهُمْ فِيها) مع ما ذكر من فنون الأنعام (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي : صنف من كلّ الثمرات. (وَ) لهم (مَغْفِرَةٌ) عظيمة (مِنْ رَبِّهِمْ) أي : كائنة من ربهم ، فهو متعلق بمحذوف ، صفة لمغفرة ، مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية ، أي : مغفرة عظيمة من ربهم. وعبّر بعنوان المغفرة دون الرّحمة ؛ إشعارا بأن الميل إلى نعيم الأشباح نقص فى الدارين يستوجب المغفرة.
أيكون هذا (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ)؟ أو : مثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد فى النّار؟ وهو كلام فى صورة الإثبات ، ومعناه : النفي ، لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار ، ودخوله فى حيّزه ، وهو قوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) (١) ، وفائدة حذف حرف الإنكار : زيادة تصوير لمكابرة من يسوّى بين المتمسك بالبيّنة والتابع لهواه ، وأنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة ، التي يجرى فيها تلك الأنهار ، وبين النّار ، التي يسقى أهلها الحميم الحار ، المشار إليه بقوله : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) ؛ حارا فى النّهاية ، إذا دنا منهم شوى وجوههم ، ووقعت فروة رؤوسهم (فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) ؛ مصارينهم ، التي هى مكان تلك الأشربة. نسأل الله العافية.
الإشارة : مثل جنة المعارف ، التي وعدها المتقون كلّ ما يشغل عن الله ، فيها أنهار من ماء علوم الحقيقة ، غير متغير صفاؤها ، ولا متكدرة أنوارها ، وأنهار من لبن علوم الشريعة المؤيّدة بالكتاب والسنة ، لم تتغير حلاوة معاملتها ، ولا لذة مناجاتها ، وأنهار من خمرة الشهود ، لذة للشاربين لها ، تذهل حلاوتها العقول ، وتفوت عن مدارك النقول ، وأنهار من عسل حلاوة المكالمة والمساررة والمناجاة ، صافيات الأوقات ، محفوظة من المكدرات ، ولهم فيها من طرف الحكم ، وفواكه العلوم ، ما لا تحصيه الطروس ، ولا تدركه محافل الدروس.
قال القشيري : (مثل الجنة) ، أي : صفتها كذا ، وللأولياء اليوم ، لهم شراب الوفاء ، ثم شراب الصفاء ، ثم شراب الولاء ، ثم شراب فى حال اللقاء ، ولكلّ من هذه الأشربة عمل ، ولصاحبه سكر وصحو ، فمن تحسى شراب الوفاء لم ينظر إلى أحد من الخلق فى أيام غيبته عن إحساسه ، وأنشدوا :
وما سرّ صدرى منذ شطّت بك النّوى |
|
أنيس ولا كأس ولا متطرف (٢) |
__________________
(١) الآية ١٤ من سورة محمد.
(٢) ورد :
وما سر قلبى منذ شط به النّوى |
|
نعيم ولا كأس ولا متصرف |
ونسب إلى عبد الله بن أحمد بن مصروف. انظر يتيمة الدهر ٣ / ١٠٨.