يقول الحق جل جلاله : (وَاذْكُرْ عِبادَنا) ، وقرأ المكي (١) : «عبدنا» ، إما على إرادة الخبر ، وإما أن يريد «إبراهيم» وحده لشرفه ، ثم عطف عليه من بعده ، ثم بيّنهم بقوله : (إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) أي : أولى القوة فى الطاعة والبصيرة فى الدين ، أو : أولى الأعمال الجليلة ، والعلوم الشريفة. فعبّر بالأيدى عن الأعمال ؛ لأن أكثرها تباشر بها ، وبالأبصار عن المعارف ؛ لأنها أقوى مبادئها. وفيه تعريض بالجهلة الباطلين ، كأنهم كالزّمنى والعماة ، وتوبيخ على ترك المجاهدة والفكرة مع تمكنهم منهما.
(إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ) أي : جعلناهم خالصين لنا بخصلة عظيمة الشأن ، لا شوب فيها ، هى (ذِكْرَى الدَّارِ) أي : تذكر للدار الآخرة على الدوام ، فإنّ خلوصهم فى الطاعة بسبب تذكرهم لها ، وذلك لأن مطمح أنظارهم ، ومسرح أفكارهم ، فى كلّ ما يأتون وما يذرون ، جوار الله عزوجل ، والفوز بلقائه ، ولا يتأتى ذلك على الدوام إلا فى الآخرة ، فمطلبهم إنما هو الجوار والرّؤية ، لا مجرد الحضور فى تلك الدار ، كما قال ابن الفارض ـ رضي الله عنه :
ليس سؤلى من الجنان نعيما |
|
غير أنّى أريدها لأراك |
قال ابن عطية : يحتمل أن يكون معنى الآية : (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ) بأن خلص لهم التذكير بالدار الآخرة ، ودعاء الناس إليها ، أي : وتزهيدهم فى الدنيا ، كما هو ديدن الأنبياء والرّسل. وهذا قول قتادة ، أو : إنا أخلصناهم بأن خلص لهم ذكرهم للدار الآخرة وخوفهم والعمل بحسب ذلك. وهذا قول مجاهد. ه. قلت : مرتبة الرّسل تنافى العمل لحرف ، فإنّ أولياء هذه الأمة تحرروا من العمل للحرف ، بل عبدوا الله شكرا ومحبة وعبودية ، لا طعما فى شىء ، فكيف بأكابر الرّسل. وإطلاق الدار للإشعار بأنها الدار فى الحقيقة ، وإنما الدنيا معبر إليها.
ومن قرأ بالإضافة (٢) ، فمن إضافة الشيء إلى ما بيّنه ؛ لأن الخالصة تكون ذكرى وغير ذكرى ، و «ذكرى» : مصدر مضاف إلى المفعول ، أي : بإخلاصهم ذكرى الدار. وقيل : خالصة بمعنى خلوص ، وهى مضافة إلى الفاعل ، أي : بأن خلصت لهم ذكرى الدار ، على أنهم لا يشوبون ذكرى الدار بشىء آخر ، إنما همّهم ذكرى الدار الآخرة لجوار الحبيب.
__________________
(١) وهو ابن كثير الداري ، أحد القراء السبعة.
(٢) أي : «خالصة» بغير تنوين ، مضافا للبيان ، كما فى «بشهاب قبس». وبها قرأ نافع وأبو جعفر. انظر الإتحاف (٢ / ٤٢٢)