الله وتجاوزه عن عامله ، إذ لا يخلو عمل من خلل أو نقص ، فإذا تجاوز الحق عن عبده قبله منه على نقصه ، فلو لا حلمه ـ تعالى ـ ورأفته ما كان عمل أهلا للقبول. (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) فيغفرها لهم ، (فِي) جملة (أَصْحابِ الْجَنَّةِ) ، كقولك : أكرمنى الأمير فى ناس من أصحابه ، أي : أكرمنى فى جملة من أكرمهم ، ونظمنى فى سلكهم ، ومحله : نصب على الحال ، أي : كائنين فى أصحاب الجنة ، ومعدودين فيهم ، (وَعْدَ الصِّدْقِ) أي : وعدهم وعدا صدقا ، فهو مصدر مؤكد ، لأن قوله : (نَتَقَبَّلُ) و (نَتَجاوَزُ) وعد من الله ـ تعالى لهم بالتقبل والتجاوز ، (الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) فى الدنيا على ألسنة الرّسل ـ عليهمالسلام.
الإشارة : لمّا كانت تربية الأبوين مظهرا لنعمة الإمداد بعد ظهور نعمة الإيجاد ، وصىّ الله ـ تعالى ـ بالإحسان إليهما ، وفى الحقيقة : ما ثمّ إلا تربية الحق ، ظهرت فى تجلى الوالدين ، قذف الرّأفة فى قلوبهما ، حتى قاما بتربية الولد ، فالإحسان إليها إحسان إلى الله ـ تعالى ـ فى الحقيقة. وقال الورتجبي : وصى الإنسان بالإحسان إلى أبويه ، لأنهما أسباب وجوده ، ومصادر أفعال الحق بدا منهما بدائع قدرته ، وأنوار ربوبيته ، فحرمتهما حرمة الأصل ، ومن صبر فى طاعتهما رزقه الله حسن المعاشرة على بساط حرمته وقربته.
قال بعضهم : أوصى الله العوام ببر الوالدين لما لهما عليه من نعمة التربية والحفظ ، فمن حفظ وصية الله فى الأبوين ، وفّقه بركة ذلك ، لحفظ حرمات الله ، وكذلك رعاية الأوامر والمحافظة عليها توصل بركتها بصاحبها إلى محل الرّضا والأنس. ه.
قال القشيري : وشر خصال الولد : التبرم بطول حياتهما ، والتأذى بما يجب من حقهما ، وعن قريب يموت الأصل ، وقد يبقى النّسل ، ولا بد أن يتبع الأصل. ه. أي : فيعق إن عق أصله ، ويبر إن بر ، وفى الحديث : «برّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم» (١). ثم قال : ولقد قالوا فى هذا المعنى وأنشدوا :
رويدك إنّ الدّهر فيه كفاية |
|
لتفريق ذات البين فارتقب الدّهرا (٢). ه. |
قلت : وقد تقدم أن حرمة الشيخ أوكد من حرمة الوالدين ، فيقدم أمره على أمرهما ، كما تقدم عن الجنيد فى سورة النّساء (٣). والله تعالى أعلم.
__________________
(١) رواه الطبراني فى الأوسط (ح / ١٠٠٢) من حديث ابن عمر رضي الله عنه. قال الهيثمي فى مجمع الزوائد (٨ / ١٣٨) : ورجاله رجال الصحيح غير شيخ الطبراني.
(٢) منسوب إلى أبى على الثقفي ، كما فى طبقات السلمى / ٣٦٤ وطبقات الشافعية الكبرى (٣ / ١٩٥) ، ونسب إلى عبيد الله بن عبد الله طاهر ، فى زهر الآداب (٢ / ٦٠٤) وأمالى المرتضى (١ / ١١٩).
(٣) راجع إشارة الآية ٣٦ من سورة النّساء.