الإشارة : قل ما كنت بدعا من الرّسل ، وكذلك الولىّ يقول : ما كنت بدعا من الأولياء ، مع العصمة والحفظ وصريح الوعد بالنجاة ، لا تساع معرفتهم وعلمهم بالله ؛ لأنهم لا يقفون مع وعد ولا وعيد ؛ لأن غيب المشيئة لا يعلم حقيقته إلا الله ، وقد يكون الوعد معلقا بشروط أخفاها الله عنهم ، ليتحقق اختصاصه بحقيقة العلم ، وفى الحديث : «لا تأمن مكرى وإن أمّنتك» ، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره ، ولا يكون مع غير الله قراره ، وعلى ذلك الششترى فى نونيته ، حيث قال :
وأي وصال فى القضيّة يدّعى |
|
وأكمل من الخلق لم يدّع الأمنا؟ |
هذا ، وقد قال تعالى فى حق رسوله صلىاللهعليهوسلم : (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) (١) وقال : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) (٢) ، ومع ذلك كله لم يقف مع ظاهر الوعد ، لغيب المشيئة ، فقال فى حديث ابن مظعون : «والله لا أدرى ـ وأنا رسول ـ ما يفعل بي» وحديث ابن مظعون بالمدينة بعد الهجرة (٣) ، فتبيّن أنّ الأمن الحقيقي لا يحصل لأحد قبل الختام ، وإن كان الغالب والطرف الرّاجح أن من وعد بخير أو بشّر به ينجز له بفضل الله وكرمه ، والكريم إذا وعد لا يخلف ، لكن المشيئة وقهرية الرّبوبية لا تزال فوق رأس العبد حتى يلقاه. والله تعالى أعلم.
قال القشيري : وفى الآية دليل على فساد قول أهل البدع ، حيث لم يجوزوا إيلام البريء عقلا ؛ لأنه لو لم يجز ذلك لكان يقول : أعلم قطعا أنى معصوم ، فلا محالة يغفر لى ، ولكنه قال هذا ليعلم أن الأمر أمره ، والحكم حكمه ، له أن يفعل بعباده ما يريد. ه.
وقال الورتجبي : لا أدرى أين استغرق فى بحار وصال جماله الأبدى ، وهناك لججات تغيب فى ذرة منها جميع الأرواح العاشقة ، والأسرار الوالهة ، والقلوب الحائرة. ه. والحاصل : أنه لا يدرى نهاية مناله من الله ، لنفى الغاية فى حقه تعالى والنّهاية ، وهو صريح استبعاد الششترى دعوى الوصال ، والله أعلم. ه من الحاشية.
__________________
(١) الآيتان : ٤ ـ ٥ سورة الضحى
(٢) الآية الثانية من سورة الفتح.
(٣) حديث عثمان بن مظعون ـ رضي الله عنه ـ أخرجه البخاري فى (الجنائز ، باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج فى أكفانه ، ح ١٢٤٣) ولفظه : عن خارجة بن زيد بن ثابت : أن أم العلاء ـ امرأة من الأنصار ، بايعت النّبى صلىاللهعليهوسلم ـ أخبرته أنه اقتسم المهاجرون قرعة فطار لنا عثمان بن مظعون فأنزلناه فى أبياتنا ، فوجع وجعه الذي توفى فيه ، فلما توفى وغسّل ، وكفن فى أثوابه ، دخل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقلت : رحمة الله عليك أبا السائب ، فشهادتى عليك لقد أكرمك الله ، فقال النّبى صلىاللهعليهوسلم : «وما يدريك أن الله قد أكرمه؟» فقلت : بأبى أنت يا رسول الله ، فمن يكرمه الله؟ فقال : «أما هو فقد جاءه اليقين ، والله إنى لأرجو له الخير ، والله ما أدرى ، وأنا رسول الله ، ما يفعل بي ، فو الله لا أزكى أحدا بعده أبدا.