(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) أي : الكتاب ، وقد جرى ذكره فى أول السورة ، أي : سهّلنا قراءته (بِلِسانِكَ) ، بلغتك (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي : كى يفهموه ويتعظوا به ، ويعملوا بموجبه ، فلم يفعلوا ، (فَارْتَقِبْ) ؛ فانظر ما يحلّ بهم ، (إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) ما يحلّ بك. قال القشيري : فارتقب العواقب ترى العجائب ، إنهم مرتقبون ، ولكن لا يرون إلا ما يكرهون. ه.
الإشارة : إن المتقين شهود ما سوانا فى مقام العرفان ، وهو مقام المقربين ، وهو محل الأمن والأمان ، فى جنات المعارف ، وعيون العلوم والحكم ، يلبسون من أسرار الحقيقة وأنوار الشريعة ، ما تبتهج به بواطنهم وظواهرهم ، متقابلين فى المقامات ، يجمعهم الفناء والبقاء ، ويتفاوتون فى اتساع المقامات والأسرار ، تفاوت أهل غرف الجنان ، كذلك ، أي : الأمر فوق ما تصف ، وزوجانهم بعرائس المعرفة ، لا يذوقون فى جنات المعارف ـ إذا دخلوها ـ الموت أبدا إلا الموتة الأولى ، وهى موت نفوسهم ، فحييت أرواحهم حياة أبدية ، وأما الموت الحسى فإنما هو انتقال من عالم إلى عالم ، ومن مقام إلى مقام ، ووقاهم ربهم عذاب الجحيم ، فضلا منه وإحسانا ، خلق فيهم المجاهدة ، ومنّ عليهم بالمشاهدة.
وقال الورتجبي بعد كلام : إذا أحضرهم ـ تعالى ـ فى ساحة كبريائه ، ويتجلى لهم بالبديهة من غير الجبّارية والقهّارية ؛ يكونون فى محل الفناء ، وفى فناء الفناء ، وغلبات سطوات ألوهيته ، فإذا صاروا فانين ، ألبسهم الله لباس بقائه ، فيبقون ببقائه أبد الآبدين ، فإذا الاستثناء وقع على التحقيق ، لا على التأويل ، فياربّ موت هناك ، ويا ربّ حياة هناك ؛ لأن الحدث لا يستقيم عند بروز حقائق بواطن القدم ، ألا ترى إلى إشارة النّبى صلىاللهعليهوسلم كيف قال : «حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» (١) أي : فيتلاشى الخلق ويبقى الحق.
قيل للجنيد : أهل الجنة باقون ببقاء الحق؟ فقال : لا ، ولكنهم مبقون ببقاء الحق ، والباقي على الحقيقة من لم يزل ، ولا يزال باقيا. ه.
والحاصل : أنه لا عدم بعد وجودهم بالله ، ولا يكون إلا بعد الفناء عن أوصاف الخليقة ، ووجود البشرية ، بالاندراج فى وجود الحق ، ثم الحياة بحياته ، والبقاء ببقائه أبدا ، قاله فى الحاشية الفاسية. والفرق بين الباقي والمبقى فى كلام الجنيد : أن الباقي يدلّ على ثبوت بقائه مستقلا ، بخلاف المبقى ، لا وجود لبقائه ، بل مبقى ببقاء غيره.
__________________
(١) سبق تخريج الحديث الشريف ، انظر (٤ / ١٧٨).