والمباركة : الكثيرة الخير ؛ لما ينزل فيها من الخير والبركة ، والمنافع الدينية والدنيوية ، ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن لكفى به بركة.
(إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) ؛ استئناف مبين لما يقتضى الإنزال ، كأنه قيل : إنا أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب ، (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) ؛ استئناف أيضا مبين لسر تخصيص هذه الليلة بالإنزال ، أي : إنما أنزلناه فى هذه الليلة المباركة ، لأنها فيها يفرق كلّ أمر حكيم ، أي : ذى حكمة بالغة ، ومعنى «يفرق» : يفصل ويكتب كلّ أمر من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم ، من هذه الليلة إلى ليلة القدر المستقبلة ، وقيل : الضمير فى «فيها» يرجع لليلة النّصف ، على الخلاف المتقدم.
وروى أبو الشيخ ، بسند صحيح ، عن ابن عباس رضي الله عنه فى قوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) قال : «ليلة النصف من شعبان ، يدبر أمر السنة ، فيمحو ما يشاء ويثبت غيره ؛ الشقاوة والسعادة ، والموت والحياة». قال السيوطي : سنده صحيح لا غبار عليه ولا مطعن فيه. ه. وروى عن ابن عباس : قال : إن الله يقضى الأقضية كلها ليلة النّصف من شعبان ، ويسلمها إلى أربابها ليلة القدر. وفى رواية : ليلة السابع والعشرين من رمضان ، قيل : وبذلك يرتفع الخلاف أن الأمر يبتدأ فى ليلة النّصف من شعبان ، ويكمل فى ليلة السابع والعشرين من رمضان (١). والله أعلم.
وقوله تعالى : (حَكِيمٍ) الحكيم : ذو الحكمة ، وذلك أن تخصيص الله كلّ أحد بحالة معينة من الرّزق والأجل ، والسعادة والشقاوة ، فى هذه الليلة ، يدلّ على حكمة بالغة ؛ فأسند إلى الليلة لكونها ظرفا ، إسنادا مجازيا. وقوله : (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) : منصوب على الاختصاص ، أي : أعنى بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا ، على مقتضى حكمتنا ، وهو بيان لفخامته الإضافية ، بعد بيان فخامته الذاتية ، ويجوز أن يكون حالا من كلّ أمر ؛ لتخصيصه بالوصف ، (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) ؛ بدل من «إنا كنا منذرين».
و (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) : مفعول له ، أي : أنزلنا القرآن ؛ لأن من عادتنا إرسال الرّسل بالكتب ؛ لأجل إفاضة رحمتنا. ووضع الرّب موضع الضمير ، والأصل : رحمة منا ؛ للإيذان بأن ذلك من أحكام الرّبوبية ومقتضياتها ، وإضافته إلى ضميره صلىاللهعليهوسلم لتشريفه وفخامته.
__________________
(١) على هامش النّسخة الأم مايلى : كيف يرتفع ، والله تعالى يقول فيها ـ أي : الليلة المباركة «يفرق كلّ أمر حكيم» وهى ليلة القدر؟ على أنه : أي إشكال لكلام الله تعالى مع كلام غيره ، والمرفوع بذلك ضعيف أيضا ، فلا إشكال من كلّ جهة ، والله الحمد. ه.