السادس : التخلي عن موانع الفهم ، ومعظمها أربعة : أولها : صرف الهمة إلى إخراج الحروف من مخارجها ، وهذا تولى حفظه شيطان وكّل بالقراء. وكذلك الاشتغال بضبط رواياته ، فأنى تنكشف لهذا أسرار المعاني. ثانيها : أن يكون مقيدا بمذهب ، أخذه بالتقليد ، وجمد عليه ، فهذا شخص قيّده معتقده ، فلا يمكن أن يخطر بباله غير معتقده ، فلا يتبحر فى معانى القرآن ؛ لأنه مقيد بما جمد عليه. ثالثها : أن يكون مصرا على ذنب ، أو متصفا بكبر ، أو : مبتلى بهوى فى الدنيا ، وبهذا ابتلى كثير من النّاس ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ) (١) أي : عن فهم آياتي. رابعها : أن يكون قد قرأ تفسيرا ظاهرا ، واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما يتناوله النّقل عن ابن عباس وغيره ، وأمّا ما وراء ذلك تفسير بالرأى ، فهذا أيضا من أعظم الحجب ؛ فإن القرآن العظيم له ظاهر وباطن ، وحدّ ومطّلع ، فالفهم فيه لا ينقطع إلى الأبد ، فهو بحر مبذول ، يغرف منه كلّ واحد على قدر وسعه ، إلى يوم القيامة.
السابع : التخصيص ، وهو أن يعتقد أنه المقصود بكلّ خطاب فى القرآن ، فإن سمع أمرا أو نهيا ، قدر أنه المأمور والمنهي ، وكذلك إن سمع وعدا ووعيدا ، وإن سمع قصص الأولين علم أن المقصود به الاعتبار ، ليأخذ من تضاعيفه ما يحتاج إليه ، ويتقوى إيمانه ، قال تعالى : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) (٢) فالقرآن لم ينزل خاصا برسول الله صلىاللهعليهوسلم ، بل هو شفاء ورحمة ونور للعالمين ، فيثبت فؤاد كلّ من يسمعه.
الثامن : التأثير ، وهو أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة ، بحسب اختلاف الآيات ، فيكون له بحسب كلّ فهم حال ووجد ، يتصف به قلبه ؛ من الخوف ، والرّجاء ، والقبض ، والبسط ، وغير ذلك.
التاسع : الترقي وهو أن يترقى إلى أن يسمع الكلام من الله سبحانه ، لا من نفسه ، ولا من غيره. فدرجات القرآن ثلاث : أدناها : أن يقدر العبد كأنه يقرأ على الله تعالى ، واقفا بين يديه ، فيكون حاله السؤال والتملق. ثانيها : أن يشهد بقلبه كأن الله تعالى يخاطبه بألفاظه ، ويناجيه بإنعامه وإحسانه ، فمقامه الحياء والتعظيم. الثالثة : أن يرى فى الكلام المتكلّم ، فلا ينظر إلى نفسه ، ولا إلى قراءته ، بل يكون مقصور الهم على المتكلم ، مستغرقا فى شهوده ، وهذه درجة المقربين ، وما قبلها درجة أصحاب اليمين ، وما خرج عن هذا فهو درجة الغافلين. وعن الدرجة العليا أخبر جعفر الصادق رضي الله عنه بقوله : والله لقد تجلى الله لخلقه فى كلامه ولكن لا يبصرون. ه. وقال
__________________
(١) من الآية ١٤٦ من سورة الأعراف.
(٢) الآية ١٢٠ من سورة هود.