(يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) : بدل من «يوم التلاق» أي : خارجون من قبورهم ، أو : ظاهرون ، لا يستترون بشىء من جبل أو أكمة أو بناء ؛ لكون الأرض يومئذ قاعا صفصفا ، ولا عليهم ثياب ، إنما هم حفاة عراة ، كما فى الحديث. أو : بارزة نفوسهم لا يحجبها غواش الأبدان ، أو : بارزة أعمالهم وسرائرهم ، (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) من أعمالهم وأحوالهم ، الجلية والخفية ، السابقة واللاحقة ، وهو استئناف لبيان بروزهم ، وإزاحة لما كان يتوهمه المتوهمون فى الدنيا من الاستتار توهما باطلا ، فإذا برزوا وحشروا ، نادى الحق ـ جل جلاله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ فلا يجيبه أحد ، ثم يعود ثلاثا ، فيجيب نفسه بنفسه بقوله : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) أي : الذي قهر العباد بالموت.
روى أن الله تعالى يجمع الخلائق فى صعيد واحد ، فى أرض بيضاء ، كأنها سبيكة فضة ، لم يعص الله عليها قط ، فأول ما يتكلم به أن ينادى مناد : لمن الملك اليوم؟ فيجيب نفسه : «لله الواحد القهار». وقيل : المجيب أهل المحشر ، وروى أيضا : أن هذا القول يقوله الحق تعالى عند فناء الخلق وقبل البعث ، ولعله يقال مرتين.
قال تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ) من النّفوس البرة والفاجرة ، (بِما كَسَبَتْ) من خير أو شر ، وهذا من تتمة الجواب ، أو : حكاية لما سيقوله تعالى يومئذ عقب السؤال والجواب ، (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) بنقص ثواب أو زيادة عذاب ، (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) ؛ لأنه لا يشغله شأن عن شأن ، فكما أنه يرزقهم دفعة ، يحاسبهم دفعة ، فيحاسب الخلق قاطبة فى أقرب زمان ، كما نقل عن ابن عباس : أنه تعالى إذا أخذ فى حسابهم لم يقل (١) أهل الجنة إلا فيها ، وأهل النّار إلا فيها. ه.
قلت : المراد بالحساب : إظهار ما يستحق كل واحد من النّعيم أو العذاب ، وأما ما ورد من طول المكث فى المحشر على الكفار والفجار ؛ فإنما ذلك تعذيب بعد فراغ المحاسبة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : هو الذي يريكم آياته الدالة على توحيده ، وينزل لكم من سماء الغيوب علما ، تتقوت به قلوبكم وأرواحكم ، فتغيبون فى مشاهدة المدلول عن الدليل ، وما يتذكّر بهذا ويهتد إليه إلا من ينيب ، ويصحب أهل الإنابة. فادعوا الله ، أي : اعبدوه وادعوا إلى عبادته وإخلاص العمل ، ولو كره الجاحدون ، فإنّ الله رفيع درجات الداعين إليه مع المقربين ، فى مقعد صدق عند ذى العرش المجيد. قال القشيري : يرفع درجات المطيعين بظواهرهم فى الجنة ، ودرجات العارفين بقلوبهم فى الدنيا ، فيرفع درجتهم عن النّظر إلى الكونين ، والمساكنة إليهما ، وأما المحبون فيرفع درجتهم عن أن يطلبوا فى الدنيا والعقبى شيئا غير رضا محبوبهم. ه.
__________________
(١) من القيلولة.