الحق غير محدودة ، وقلب العارف قد تجلت فيه عظمة الحق ، فوسعها ، بدليل الحديث : «لن تسعنى أرضى ولا سمائى ، ووسعني قلب عبدى المؤمن» (١) ، أي : الكامل.
ثم أخبر تعالى عن حملة العرش ومن حوله بقوله : (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي : ينزهونه تعالى عما لا يليق بشأنه الجليل ، ملتبسين بحمده على نعمائه التي لا تتناهى ، (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) إيمانا يناسب حالهم. وفائدة ذكره مع علمنا بأن حملة العرش ومن حوله الذين يسبّحون بحمد ربهم مؤمنون ؛ إظهار لشرف الإيمان وفضيلته ، وإبراز لشرف أهله ، والترغيب فيه ، كما وصف الأنبياء فى بعض المواضع بالصلاح. وفيه تنبيه على أن الملائكة لم يحصل لهم العيان ، وإنما وصفوا بالإيمان بالغيب ، وهم طبقات : منهم العارفون أهل العيان ، ومنهم أهل الإيمان.
ثم قال تعالى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي : ويستغفرون لمن شاركهم فى حالهم من الإيمان ، وفيه دليل على أن الإشراك يجب أن يكون أدعى شىء إلى النّصيحة والشفقة ، وإن تباعدت الأماكن ، وفى نظم استغفارهم لهم فى سلك وظائفهم المفروضة عليهم ، من تسبيحهم ، وتحميدهم ، وإيمانهم ، إيذان بكمال اعتنائهم به ، وإشعار بوقوعه عند الله ـ تعالى ـ موقع القبول.
(رَبَّنا) أي : يقولون : ربنا ، إمّا بيان لاستغفارهم ، أو حال ، (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) أي : وسعت رحمتك وعلمك كل شىء ، فأزيل الكلام عن أصله ، بأن أسند الفعل إلى صاحب الرّحمة والعلم ، ونصبا على التمييز ، مبالغة فى وصفه ـ تعالى ـ بالرحمة والعلم ، وفى عمومهما ، وتقديم الرّحمة ؛ لأنها السابقة والمقصودة هنا ، (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا) أي : للذين علمت منهم التوبة ، ليناسب ذكر الرّحمة ، (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) أي : طريق الهدى التي دعوت إليها. والفاء لترتيب الدعاء على ما قبلها من سعة الرّحمة والعلم ، (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي : احفظهم منه ، وهو تصريح بعد إشعار ؛ للتأكيد.
(رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) إياها ، (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي : صلاحا مصححا لدخول الجنة فى الجملة ، وإن كانوا دون صلاح أصولهم ، و (من) : عطف على ضمير (وعدتهم) ، أي : وأدخل معهم هؤلاء ؛ ليتم سرورهم ، ويتضاعف ابتهاجهم. قال سعيد بن جبير : (يدخل الرّجل الجنة ، فيقول : أين أبى؟ أين أمي؟ أين ولدي؟ أين زوجتى؟ فيقال له : لم يعملوا مثل عملك ، فيقول : كنت أعمل لى ولهم ، فيقال : أدخلوهم الجنة) (٢). وسبق الوعد بالإدخال والإلحاق لا يستدعى حصول الموعود بلا توسط شفاعة واستغفار ، وعليه بنى قول من قال : فائدة الاستغفار للمنيب الكرامة والثواب. انظر أبا السعود.
__________________
(١) ذكره الغزالي فى الإحياء (٣ / ١٦) ، قال العراقي فى المغني : «ليس له أصل» وقال القاري فى الأسرار المرفوعة (ص ٣١٠) : «ليس له إسناد معرووف عن النّبى صلىاللهعليهوسلم». والحديث وجدته بنحوه عند الديلمي فى الفردوس (٣ / ١٧٤ ح ٤٤٦٦) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه لفظه : «لا يسعنى شىء ووسعني قلب عبدى المؤمن اللين الوادع إذا ألبسته لبسة أحبائى ...» الحديث.
(٢) أخرجه ابن جرير (٢٤ / ٤٥).