فإن قال قائل فإنكم أنتم تطلقون أن المرء مستطيع قبل الفعل لصحة جوارحه فهذا يلزمكم. قلنا : هذا لا يلزمنا لأننا لم نطلق أن له قدرة تامة على ذلك أصلا ، بل قلنا إنه لا يقدر على ذلك قدرة تامة البتة ، ومعنى قولنا إنه مستطيع بصحة جوارحه أي أنه متوهّم منه ذلك لو كان ، ونحن لم نطلق الاستطاعة إلا على هذا الوجه حيث أطلقها الله تعالى.
فإن قالوا : إن الله تعالى قادر على كل ذلك ، ولا يوصف بالقدرة على فسخ علمه الذي لم يزل ، قلنا : وهذا أيضا مما تكلمنا فيه آنفا بل الله تعالى قادر على كل ذلك ، بخلاف خلقه ، على ما قد مضى كلامنا فيه وبالله تعالى التوفيق.
وقد نص الله تعالى على ما قلنا بقوله عزوجل : (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [سورة التوبة : ٤٢].
إلى قوله : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) [سورة التوبة : ٤٦].
فأكذبهم الله عزوجل في نفيهم عن أنفسهم الاستطاعة التي هي صحة الجوارح وارتفاع الموانع ، ثم نص تعالى على أنه قادر «اقعدوا مع القاعدين».
ولا يكون هذا إلا أمر تكوين لا أمرا بالقعود ، لأنه تعالى ساخط عليهم لقعودهم ، وقد نص الله تعالى على أنه (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة يس : ٨٢].
فقد ثبت يقينا أنهم مستطيعون بظاهر الأمر بالصحة في الجوارح ، وارتفاع الموانع ، وأن الله تعالى كوّن فيهم قعودهم فبطل أن تتم استطاعتهم ، بخلاف فعلهم الذي ظهر منهم ، وقال عزوجل : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) [سورة الكهف : ١٧].
فبين عزوجل بيانا جليا أن من أعطاه الهدى اهتدى ، ومن أضله فلا يهتدي ، فصح يقينا أن بوقوع الهدى له من الله تعالى وهو التوفيق يفعل العبد ما يكون به مهتديا ، وأنّ بوقوع الإضلال من الله تعالى ، وهو الخذلان وخلق ضلال العبد ، يفعل المرء ما يكون به ضلالا.
فإن قال قائل : معنى هذا أن من سماه الله تعالى مهتديا ، ومن سماه ضلالا قيل له هذا. قلنا له هذا باطل لأن الله تعالى نص على أن من أضلّه الله فلن تجد له وليا مرشدا فلو أراد الله عزوجل التسمية كما زعمتم ، لكان هذا القول منه عزوجل كذبا ،