قال أبو محمد : وكذلك القول فيمن تساوت حسناته وكبائره وهم أهل الأعراف فلا يعذبون أصلا.
فقد صح يقينا أن هؤلاء الطبقات الأربع هم الذين شاء الله تعالى أن يغفر لهم بلا شك ، فبقي الذين لم يشإ الله تعالى أن يغفر لهم ، ولم يبق من الطبقات أحد إلا من رجحت كبائره في الموازنة على حسناته ، فهم الذين يجازون بقدر ذنوبهم ثم يخرجون من النار بالشفاعة ، وبرحمة الله عزوجل. فقالوا : من هؤلاء من يغفر الله تعالى له ، ومنهم من يعذبه ، قلنا لهم : أعندكم بهذا البيان نص؟ وهم لا يجدونه أبدا فظهر تحكمهم بلا برهان ، وخلافهم لجميع الآيات والأخبار والآيات التي تعلقوا بها فإنهم مقرون على أنها ليست على عمومها بل هي مخصوصة ، لأن الله تعالى قال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [سورة النساء آية رقم ٤٨].
ولا خلاف في أنه تعالى يغفر الشرك لمن آمن ، فصح أنها مجملة يفسرها سائر الآيات والأخبار ، وكذلك حديث عبادة : «خمس صلوات كتبهن الله تعالى على العباد من جاء بهن لم ينقص من حدودهن شيئا كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء غفر له وإن شاء عذبه». (١)
فإنهم متفقون على أن من جاء بهن لم ينتقص من حدودهن شيئا إلا أنه قتل ، وزنا ، وسرق ، فإنه قد يعذب ، ويقولون إن لم يأت بهن فإنه لا يعذب على التأبيد ، بل يعذب ثم يخرج عن النار.
قال أبو محمد : هذا ترك منهم أيضا لظاهر هذا الخبر.
قال أبو محمد : ولا فرق بين قول الله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) وبين قوله : (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) [سورة القارعة آية رقم ٦]. كلاهما خبر ، إن جاز إبطال أحدهما جاز إبطال الآخر ، ومعاذ الله من هذا القول. وكذلك قد منع الله تعالى من هذا القول ، بقوله تعالى : (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [سورة ق آية رقم ٢٨ و ٢٩].
ونحن نقول إن الله تعالى يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وأنه تعالى يغفر ما دون الشرك لمن يشاء وأنّ كل أحد فهو في مشيئة الله تعالى ، إلا أننا نقول : إنه تعالى
__________________
(١) رواه أبو داود في الوتر باب ٢ ، والنسائي في الصلاة باب ٦ ، والدارمي في الصلاة باب ٢٠٨ ، ومالك في صلاة الليل حديث ١٤ ، وأحمد في المسند (٥ / ٣١٥ ، ٣١٩).