صرفه برحمته عن من لم يصب ولم يجهل ، وإذ صرفه تعالى عن بعض ولم يصرفه عن بعض فقد أراد تعالى إضلال من صبا وجهل. قال تعالى : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) [سورة الأنعام آية رقم ٢٥].
فليت شعري إذ قال تعالى : إنه جعل قلوب الكافرين في أكنة أن يفقهوا القرآن ، وجعل الوقر في آذانهم ، أتراه أراد أن يفقهوه ، أو أراد ألا يفقهوه؟ وكيف يسوغ في عقل أحد أن يخبر تعالى أنه فعل عزوجل شيئا لم يرد أن يفعله ولا أراد كونه ، ولا شاء إيجاده؟ وهذا تخليط لا يتشكل في عقل كل ذي مسكة من عقل ـ فصحّ يقينا أن الله تعالى أراد كون الوقر في آذانهم ، وكون الأكنة على قلوبهم.
وقال تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [سورة النحل آية رقم ٩٣].
فنصّ تعالى على أنه لم يرد أن يجعلنا أمة واحدة ، ولكن شاء أن يضل قوما ويهدي قوما ، فصحّ يقينا أنه تعالى شاء إضلال من ضل ، وقال تعالى مثنيا على قوم ، ومصدقا لهم في قولهم : (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) [سورة الأعراف آية رقم ٨٩].
فقال النبيون عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم قول الحق الذي شهد الله عزوجل بتصديقه أنهم إنما خلصوا من الكفر بأن الله تعالى نجاهم منه ، ولم ينج الكافرين منه ، وأن الله تعالى إن شاء أن يعودوا في الكفر عادوا فيه ـ فصح يقينا أنه تعالى شاء ذلك ممن عاد في الكفر.
وقد قالت المعتزلة في هذه الآية : معنى هذا إلّا أن يأمرنا الله بتعظيم الأصنام كما أمرنا بتعظيم الحجر الأسود والكعبة.
قال أبو محمد : وهذا في غاية الفساد ، لأن الله تعالى لو أمرنا بذلك لم يكن عودا في ملة الكفر بل كان يكون ثباتا على الإيمان وتزايدا فيه. قال تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) [سورة البقرة آية رقم ١٠].
فليت شعري إذ زادهم الله مرضا أتراه لم يشأ ، ولا أراد ما فعل من زيادة المرض في قلوبهم ، وهو الشك والكفر؟ وكيف يفعل الله ما لا يريد أن يفعل؟ وهل هذا إلّا إلحاد مجرد ممن قاله؟ وقال تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) [سورة البقرة آية رقم ٢٥٣].