رَسْمًا لِما تُصُوِّرَ وهَجَسَ من ذلك فى النُّفوس فعَلِمْنا بذلك أنَّ اللُّغَةَ اضْطِرارِيَّةٌ وان كانتْ موضوعاتُ ألفاظِها اخْتِياريةً فانَّ الواضعَ الأوّلَ المُسَمّىِ للَاقَلِّ جُزْأً وللأكثرِ كُلًّا ولِلَّوْنِ الذى يُفَرِّقُ شُعاعَ البَصَرِ فيَبُثُّه ويَنْشُرُه بَياضًا وللذِى يَقْبِضُه فَيَضُمُّه ويَحْصُره سَوادا لو قَلَبَ هذه التسميةَ فسَمَّى الجُزْءَ كُلًّا والكلَّ جزأً والبياضَ سَوادًا والسوادَ بياضًا لم يُخِلَّ بموضُوع ولا أَوْحَشَ أسماعَنا مِنْ مَسْمُوع ونحنُ مع ذلك لا نَجِدُ بُدًّا من تسميةِ جميعِ الاشياء لِتُحْتازَ بأسمائِها ويَنْمازَ بعضُها من بعضٍ باجْراسِها وأَصْدائِها كما تَبايَنَتْ أَوّلَ وَهْلةٍ بطِباعِها وتَخالفتْ قبلَ ذلك بصُوَرِها وأوضاعِها ونِعِمَّا ما سدَّدَتِ الحُكماءُ اليه فى ذلك من دَقيقِ الحِكْمةِ ولَطيفِ النَّظَرِ والصَّنعةِ لما حَرِصُوا عليه مِنَ الايضاح وأَغَذُّوا اليهِ من ايثارِ الابانةِ والافْصاح
فأَمَّا اللفظةُ التى تَدُلُّ على كَمّيَّتَيْنِ مُخْتلِفَتَيْنِ مُنْفَصِلَتين أو مُتَّصِلَتينِ كالبَشَرِ الذى يَقَعُ على العَددِ القليل والكثير والجَلَلِ الذى يَقَعُ على العظيم والصغيرِ واللفظةُ التى تَدُلُّ على كَيْفِيَّتينِ مُتَضادَّتينِ كالنَّهَلِ الواقعِ على العَطَشِ والرِّىِّ واللفظةُ الدالةُ على كيفيات مختلفةٍ كالجَوْنِ الواقِع على السوادِ والبياضِ والحُمْرةِ وكالسُّدْفةِ المَقُولةِ على الظُّلمةِ والنُّورِ وما بينهما من الاختِلاطِ فسآتِى على جميعِها مُسْتَقْصًى فى فصلِ الاضْدادِ من هذا الكتابِ مُثْبِتًا له غَيْرَ جاحِد ومُضطَرًّا الى الاقْرارِ به على كُلِّ نافٍ مُعانِد ومُبَرِّئًا للحُكماءِ المُتواطِئِينَ على اللغةِ أو المُلْهَمِينَ اليها مِنَ التَّفْرِيط ومُنَزِّهًا لهم عن رَأْىِ مَنْ وَسَمَهُم فى ذلك بالذَّهابِ الى الالْباسِ والتَّخْلِيط
وكذلك أقولُ على الاسماء المُترادفةِ التى لا يَتَكَثَّرُ بها نَوْع ولا يَحْدُثُ عن كَثْرتِها طَبْع كقولنا فى الحجارةِ حَجَرٌ وَصفاةٌ ونَقَلةٌ وفى الطويلِ طَوِيلٌ وسَلِبٌ وشَرْحَبٌ وعلى الاسماء المُشْتَركةِ التى تَقَعُ على عِدَّةِ أنواع كالعَيْن المَقُولةِ على حاسَّةِ البصرِ وعلى نَفْسِ الشىءِ وعلى الرَّبِيئَةِ وعلى جَوْهَرِ الذَّهبِ وعلى يَنْبُوعِ الماءِ وعلى المَطرِ الدائمِ وعلى حُرِّ المَتاعِ وعلى حَقِيقةِ القِبْلةِ وغيرِ ذلك من الانواعِ المَقُولةِ عليها هذِه اللفظةُ ومِثْلُ هذا الاسمِ مُشْتَرَكٌ كَثِيرٌ وكُلُّ ذلك سَتَراهُ واضِحًا أَمْرُه مُبَيَّنًا عُذْرُه فى موضِعِه ان شاء الله
وقد اختلفوا فى اللغةِ أَمُتَواطَأٌ عليها أم مُلْهَمٌ اليها وهذا مَوْضِعٌ يَحْتاجُ الى فَضْلِ تَأَمُّلٍ غَيْرَ أنّ أكثَر أهلِ النظرِ على أنّ أصلَ اللغةِ انما هو تَواضُعٌ واصطلاحٌ لا وَحْىٌ ولا تَوْقِيفٌ إلَّا أنّ