والثاني : الحشر ، ذكره الماوردي. قوله تعالى : (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ) قال الزّجّاج : المثوى : المقام ؛ و «خالدين» منصوب على الحال. المعنى : النار مقامكم في حال خلود دائم (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) هو استثناء من يوم القيامة ، والمعنى : (خالِدِينَ فِيها) مذ يبعثون (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) من مقدار حشرهم من قبورهم ، ومدّتهم في محاسبتهم. ويجوز أن تكون (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن يزيدهم من العذاب. وقال بعضهم : إلّا ما شاء الله من كونهم في الدنيا بغير عذاب ؛ وقيل في هذا غير قول ، ستجدها مشروحة في (هود) إن شاء الله.
(وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩))
قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) في معناه أربعة أقوال (١) : أحدها : نجعل بعضهم أولياء بعض ، رواه سعيد عن قتادة. والثاني : نتبع بعضهم بعضا في النار بأعمالهم من الموالاة ، وهي المتابعة ، رواه معمر عن قتادة. والثالث : نسلط بعضهم على بعض ، قاله ابن زيد. والرابع : نكل بعضهم إلى بعض ولا نعينهم ، ذكره الماورديّ.
قوله تعالى : (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي : من المعاصي.
(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠))
قوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ) قرأ الحسن ، وقتادة : «تأتكم» بالتاء ، (رُسُلٌ مِنْكُمْ). واختلفوا في الرسالة إلى الجنّ على أربعة أقوال (٢) : أحدها : أنّ الرّسل كانت تبعث إلى الإنس خاصّة ، وأنّ الله تعالى بعث محمّدا صلىاللهعليهوسلم إلى الإنس والجنّ ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنّ رسل الجنّ ، هم الذين سمعوا القرآن ، فولّوا إلى قومهم منذرين ، روي عن ابن عباس أيضا. وقال مجاهد : الرّسل من الإنس ، والنّذر من الجنّ ، وهم قوم يسمعون كلام الرّسل ، فيبلّغون الجنّ ما
__________________
(١) قال الطبري في «تفسيره» ٥ / ٣٤٤ : وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب ، قول من قال : معناه وكذلك نجعل بعض الظالمين لبعض أولياء لأن الله ذكر قبل هذه الآية ما كان من قول المشركين ، فقال جل ثناؤه : (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) وأخبر جل ثناؤه : أن بعضهم أولياء بعض ، ثم عقب خبره ذلك بخبره عن أن ولاية بعضهم بعضا بتوليته إياهم ، فقال : وكما جعلنا بعض هؤلاء المشركين من الجن والإنس أولياء بعض يستمتاع بعضهم ببعض ، كذلك نجعل بعضهم أولياء بعض في كل الأمور (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من معاصي الله ويعملونه. ا. ه.
(٢) قال ابن كثير في «تفسيره» ٢ / ٢٢٥ الآية (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) : هذا استفهام تقرير (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ، أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) ، أي من جملتكم والرسل من الإنس فقط ، وليس من الجن رسل ، كما نص على ذلك مجاهد وابن جريج وغير واحد من الأئمة ، من السلف والخلف ، وقال ابن عباس : الرسل من بني آدم ومن الجن نذر. وحكى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم : أنه زعم أن في الجن رسلا ، واحتج بهذه الآية الكريمة وفي الاستدلال بها على ذلك نظر ، لأنها محتملة وليس بصريحة. وهي ـ والله أعلم ـ كقوله تعالى : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) أي المالح والحلو (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) إلى أن قال (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) ومعلوم أن اللؤلؤ والمرجان يخرج من الملح لا من الحلو ، وهذا واضح ولله الحمد. ا. ه.