قوله تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ) قرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، وحمزة ، والكسائيّ : «نسقيكم» بضمّ النون ، ومثله في (المؤمنين) (١). وقرأ نافع ، وابن عامر وأبو بكر عن عاصم : «نسقيكم» بفتح النون فيهما. وقرأ أبو جعفر : «تسقيكم» بتاء مفتوحة ، وكذلك في (المؤمنين) وقد سبق بيان الأنعام ، وذكرنا معنى «العبرة» في آل عمران (٢) ، والفرق بين «سقى» و «أسقى» في (الحجر) (٣). فأمّا قوله : (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) فقال الفرّاء : النّعم والأنعام شيء واحد ، وهما جمعان ، فرجع التّذكير إلى معنى «النّعم» إذ كان يؤدّي عن الأنعام ، أنشدني بعضهم.
وطاب ألبان اللّقاح وبرد (٤)
فرجع إلى اللبن ، لأنّ اللبن والألبان في معنى ؛ قال : وقال الكسائيّ : أراد : نسقيكم ممّا في بطون ما ذكرنا ، وهو صواب ، أنشدني بعضهم :
مثل الفراخ نتفت حواصله (٥)
وقال المبرّد : هذا فاش في القرآن ، كقوله للشّمس : (هذا رَبِّي) (٦) يعني : هذا الشيء الطّالع ؛ وكذلك : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ) ثم قال : (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ) (٧) ولم يقل : «جاءت» لأنّ المعنى : جاء الشيء الذي ذكرنا ، وقال أبو عبيدة : الهاء في «بطونه» للبعض ، والمعنى : نسقيكم ممّا في بطون البعض الذي له لبن ، لأنه ليس لكلّ الأنعام لبن ، وقال ابن قتيبة : ذهب بقوله : «مما في بطونه» إلى النّعم ، والنّعم تذكّر وتؤنّث. والفرث : ما في الكرش ، والمعنى : أنّ اللبن كان طعاما ، فخلص من ذلك الطعام دم ، وبقي فرث في الكرش ، وخلص من ذلك الدّم (لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) أي : سهلا في الشّرب لا يشجى به شاربه ، ولا يغصّ. وقال بعضهم : سائغا ، أي : لا تعافه النّفس وإن كان قد خرج من بين فرث ودم ، وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : إذا استقرّ العلف في الكرش طحنه فصار أسفله فرثا ، وأعلاه دما ، وأوسطه لبنا ، والكبد مسلّطة على هذه الأصناف الثلاثة ، فيجري الدّم في العروق ، واللبن في الضّرع ، ويبقى الفرث في الكرش.
قوله تعالى : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ) تقدير الكلام : ولكم من ثمرات النّخيل والأعناب ما تتّخذون منه سكرا. والعرب تضمر «ما» كقوله : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَ) (٨) أي : ما ثمّ. والكناية في «منه» عائدة على «ما» المضمرة. وقال الأخفش : إنما لم يقل : منهما ، لأنه أضمر الشيء ، كأنه قال : ومنها شيء تتّخذون منه سكرا. وفي المراد بالسّكر ثلاثة أقوال (٩) : أحدها : أنه الخمر ، قاله ابن مسعود ، وابن عمر ، والحسن ؛ وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وابن أبي ليلى ، والزّجّاج ، وابن قتيبة. وروى
__________________
(١) سورة المؤمنون : ٢١.
(٢) سورة آل عمران : ١٣.
(٣) سورة الحجر : ٢٢.
(٤) ذكره في «اللسان» مادة «كتد» ، ونسبه إلى ثعلب. وصدره : بال سهيل في الفضيخ ففسد.
(٥) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «نعم» ، ولم ينسبه لقائل.
(٦) سورة الأنعام : ٧٨.
(٧) سورة النمل : ٣٥ ـ ٣٦.
(٨) سورة الإنسان : ٢٠.
(٩) قال الإمام الطبري رحمهالله ٧ / ٦١١ ـ ٦١٢ : السّكر هو كل ما كان حلالا شربه ، كالنبيذ الحلال والخل والرطب ، وهذا التأويل هو أولى الأقوال بتأويل هذه الآية ، وذلك أن السكر في كلام العرب على أحد أوجه أربعة : أحدها : ما أسكر من الشراب. والثاني : ما طعم من الطعام. والثالث : السّكون ، والرابع : المصدر من قولهم : سكر فلان يسكر سكرا وسكرا وسكرا ، فإذا كان ذلك كذلك ، وكان ما يسكر من الشراب حراما بما قد