قال ابن قتيبة : معنى الكلام : أنه ليس من أحد يدان له ويطاع إلّا انقطع ذلك عنه بزوال أو هلكة ، غير الله عزوجل ، فإنّ الطاعة تدوم له. والثاني : واجبا ، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث : خالصا ، قاله الرّبيع بن أنس. والرابع : وله الدّين موصبا ، أي : متعبا ، لأنّ الحقّ ثقيل ، وهو كما تقول العرب : همّ ناصب ، أي : منصب ، قال النّابغة :
كليني لهمّ يا أميمة ناصب |
|
وليل أقاسيه بطيء الكواكب |
ذكره ابن الأنباري. قال الزّجّاج : ويجوز أن يكون المعنى : له الدّين ، والطّاعة ، رضي العبد بما يؤمر به وسهل عليه ، أو لم يسهل ، فله الدّين وإن كان فيه الوصب. والوصب : شدّة التّعب.
(وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥))
قوله تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ) قال الزّجّاج : المعنى : ما حلّ بكم من نعمة ، من صحة في جسم ، أو سعة في رزق ، أو متاع من مال وولد (فَمِنَ اللهِ) وقرأ ابن أبي عبلة : «فمنّ الله» بتشديد النون. قوله تعالى : (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ) قال ابن عباس : يريد الأسقام ، والأمراض ، والحاجة. قوله تعالى : (فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) قال الزّجّاج : «تجأرون» : ترفعون أصواتكم إليه بالاستغاثة ، يقال : جأر يجأر جؤارا ، والأصوات مبنيّة على «فعال» و «فعيل» ، فأمّا «فعال» فنحو «الصّراخ» و «الخوار» ، وأمّا «الفعيل» فنحو «العويل» و «الزّئير» ، والفعال أكثر. قوله تعالى : (إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ) قال ابن عباس : يريد أهل النّفاق. قال ابن السّائب : يعني الكفّار. قوله تعالى : (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) قال الزّجّاج : المعنى : ليكفروا بأنّا أنعمنا عليهم ، فجعلوا نعمنا سببا إلى الكفر ، وهو كقوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ) إلى قوله : (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) (١) ، ويجوز أن يكون «ليكفروا» ، أي : ليجحدوا نعمة الله في ذلك. قوله تعالى : (فَتَمَتَّعُوا) تهدّد ، (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبة أمركم.
(وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩))
قوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ) يعني : الأوثان. وفي الذين لا يعلمون قولان : أحدهما : أنهم الجاعلون ، وهم المشركون ، والمعنى : لما لا يعلمون لها ضرّا ولا نفعا ؛ فمفعول العلم محذوف ، وتقديره : ما قلنا ، هذا قول مجاهد ، وقتادة. والثاني : أنها الأصنام التي لا تعلم شيئا ، وليس لها حسّ ولا معرفة ، وإنما قال : يعلمون ، لأنهم لمّا نحلّوها الفهم ، أجراها مجرى من يعقل على زعمهم ، قاله جماعة من أهل المعاني ، قال المفسّرون : وهؤلاء مشركو العرب جعلوا لأوثانهم جزءا من أموالهم ، كالبحيرة والسّائبة وغير ذلك ممّا شرحناه في الأنعام (٢).
__________________
(١) سورة يونس : ٨٨.
(٢) سورة الأنعام : ٣٩.