غاب ، وعبد القمر حتى غاب ، وعبد الشّمس حتى غابت ؛ واحتجّ أرباب هذا القول بقوله تعالى : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) وهذا يدلّ على نوع تحيير ، قالوا : وإنما قال هذا في حال طفولته على ما سبق إلى وهمه ، قبل أن يثبت عنده دليل. وهذا القول لا يرتضى ، والمتأهّلون للنّبوة محفوظون من مثل هذا على كلّ حال. فأمّا قوله : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) فما زال الأنبياء يسألون الهدى ، ويتضرّعون في دفع الضّلال عنهم ، كقولهم : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) (١) ، ولأنه قد آتاه رشده من قبل ، وأراه ملكوت السّماوات والأرض ليكون موقنا ، فكيف لا يعصمه عن مثل هذا التّحيير؟! والثاني : أنه قال ذلك استدراجا للحجّة ، ليعيب آلهتهم ويريهم بغضها عند أفولها ، ولا بدّ أن يضمر في نفسه : إمّا على زعمكم ، أو فيما تظنّون ، فيكون كقوله : (أَيْنَ شُرَكائِيَ) (٢) ، وإمّا أن يضمر : يقولون ، فيكون كقوله تعالى : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) (٣) ، أي : يقولان ذلك ، ذكر نحو هذا أبو بكر بن الأنباري ، ويكون مراده استدراج الحجّة عليهم ، كما نقل عن بعض الحكماء أنه نزل بقوم يعبدون صنما ، فأظهر تعظيمه ، فأكرموه ، وصدروا عن رأيه ، فدهمهم عدوّ ، فشاورهم ملكهم ، فقال : ندعو إلهنا ليكشف ما بنا ، فاجتمعوا يدعونه ، فلم ينفع ، فقال : ها هنا إله ندعوه ، فيستجيب ، فدعوا الله ، فصرف عنهم ما يحذرون ، وأسلموا. والثالث : أنه قال مستفهما ، تقديره : أهذا ربّي؟ فأضمرت ألف الاستفهام ، كقوله : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) (٤)؟ أي : أفهم الخالدون؟ قال الشاعر :
كذبتك عينك أم رأيت بواسط |
|
غلس الظّلام من الرّباب خيالا (٥) |
أراد : أكذبتك؟ قال ابن الأنباري : وهذا القول شاذّ ، لأنّ حرف الاستفهام لا يضمر إذ كان فارقا بين الإخبار والاستخبار ؛ وظاهر قوله : (هذا رَبِّي) أنه إشارة إلى الصّانع. وقال الزّجّاج : كانوا أصحاب نجوم ، فقال : هذا ربّي ، أي هذا الذي يدبّرني ، فاحتجّ عليهم أنّ هذا الذي تزعمون أنه مدبّر ، لا نرى فيه إلّا مدبّر. و «أفل» بمعنى : غاب ؛ يقال : أفل النّجم يأفل ويأفل أفولا.
قوله تعالى : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) أي : حبّ ربّ معبود ، لأنّ ما ظهر وأفل كان حادثا مدبّرا.
(فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨))
قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ) قال ابن قتيبة : سمّي القمر قمرا لبياضه ؛ والأقمر : الأبيض ؛ وليلة قمراء ، أي : مضيئة. فأما البازغ ، فهو الطّالع. ومعنى (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي) : لئن لم يثبّتني على الهدى. فإن قيل : لم قال في الشّمس : هذا ، ولم يقل : هذه؟ فعنه أربعة أجوبة : أحدها : أنه رأى ضوء الشّمس ، لا عينها ، قاله محمّد بن مقاتل. والثاني : أنه أراد : هذا الطّالع ربّي ، قاله الأخفش. والثالث : أنّ الشّمس بمعنى الضّياء والنّور ، فحمل الكلام على المعنى. والرابع : أنّ الشّمس ليس في لفظها علامة من علامات التّأنيث ، وإنما يشبه لفظها لفظ المذكّر ، فجاز تذكيرها. ذكره والذي قبله ابن الأنباري.
__________________
(١) سورة إبراهيم : ٣٥.
(٢) سورة النحل : ٢٧.
(٣) سورة البقرة : ١٢٧.
(٤) سورة الأنبياء : ٣٤.
(٥) البيت للأخطل من قصيدة يهجو بها جريرا ، ديوانه ٤١ و «اللسان» كذب.