استدعائه أهله ، شدّة فاقتهم. والثالث : أنه أحبّ بعد خروجه من السّجن أن يدرّج نفسه إلى كمال السّرور. والصحيح أنّ ذلك كان عن أمر الله تعالى ، ليرفع درجة يعقوب بالصّبر على البلاء. وكان يوسف يلاقي من الحزن لأجل حزن أبيه عظيما ، ولا يقدر على دفع سببه.
قوله تعالى : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فيه أربعة أقال : أحدها : أعلم أنّ رؤيا يوسف صادقة وأنّا سنسجد له ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثاني : أعلم من سلامة يوسف ما لا تعلمون. قال ابن السّائب : وذلك أنّ ملك الموت أتاه ، فقال له يعقوب : هل قبضت روح ابني يوسف؟ قال : لا. والثالث : أعلم من رحمة الله وقدرته ما لا تعلمون ، قاله عطاء. والرابع : أنه لمّا أخبره بنوه بسيرة العزيز ، طمع أن يكون هو يوسف ، قاله السّدّيّ ، قال : ولذلك قال لهم : (اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا). وقال وهب بن منبّه : لمّا قال له ملك الموت : ما قبضت روح يوسف ، تباشر عند ذلك ، ثم أصبح ، فقال لبنيه : (اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ). قال أبو عبيدة : «تحسّسوا» أي : تخبّروا والتمسوا في المظانّ. فإن قيل : كيف قال : «من يوسف» والغالب أن يقال : تحسّست عن كذا؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري : أحدهما : أنّ المعنى : عن يوسف ، ولكن نابت عنها «من» كما تقول العرب : حدّثني فلان من فلان ، يعنون عنه. والثاني : أن «من» أوثرت للتّبعيض ، والمعنى : تحسّسوا خبرا من أخبار يوسف. قوله تعالى : (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : من رحمة الله ، قاله ابن عباس ، والضّحّاك. والثاني : من فرج الله ، قاله ابن زيد. والثالث : من توسعة الله ، حكاه ابن القاسم. قال الأصمعيّ : الرّوح : الاستراحة من غمّ القلب. وقال أهل المعاني : لا تيأسوا من الرّوح الذي يأتي به الله ، (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) لأنّ المؤمن يرجو الله في الشدائد.
(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣))
قوله تعالى : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ) في الكلام محذوف ، تقديره : فخرجوا إلى مصر ، فدخلوا على يوسف ، ف (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) وكان يسمّون ملكهم بذلك ، (مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) يعنون الفقر والحاجة (١) (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ). وفي ماهية تلك البضاعة سبعة أقوال : أحدها : أنها كانت دراهم ،
__________________
(١) قال القرطبي رحمهالله في «الجامع لأحكام القرآن» ٩ / ٢١٤ : في هذا دليل على جواز الشكوى عند الضر أي الجوع ، بل واجب عليه إذا ضاف على نفسه الضّر من الفقر وغيره أن يبدي حالته إلى من يرجو منه النفع ، كما هو واجب عليه أن يشكو ما به من الألم إلى الطبيب ليعالجه ، ولا يكون ذلك قدحا في التوكل ، وهذا ما لم يكن التشكّي على سبيل التّسخط ، والصبر والتجلد في النوائب أحسن ، والتعفف عن المسألة أفضل ، وأحسن الكلام في الشكوى سؤال المولى زوال البلوى.